قراءة في مشروع دستور 2022: المخاطر الكبرى لدستور “الزمام الأحمر”

صدر مشروع الدستور الذي يعرضه رئيس الجمهورية على الاستفتاء في 25 جويلية 2022، بالرائد الرسمي ليوم 30 جوان 2022. والملفت للنظر في ديباجة مشروع الدستور (الذي تضمن 142 فصلا) هو تأكيدها على التاريخ الدستوري التونسي والتذكير حتى بنصوص قديمة لم يسمع بها يوما رجال ونساء القانون وخاصة القانون الدستوري في تونس مثل ما أسمتْه دستور “الزمام الأحمر” الصادر وفقها في القرن السابع عشر. والملفت أكثر هو أن هذه الديباجة أغفلت ذكر الدستور الأول بعد الاستقلال (جوان 1959) ودستور 27 جانفي 2014.

إلا أن عدم التنصيص صراحة على هذين الدستورين في الديباجة لا يعني عدم حضورهما وبشكل واضح وملفت للنظر في نص المشروع المعروض للاستفتاء. فالمشروع جاء مشكلا من فصول دستور عهد الأمان لسنة 1861 ودستور الجمهورية الأولى 1959 و الجمهورية الثانية 2014. وبالرجوع إلى هذا المشروع، يتبين أنه أكّد عديد الحقوق والحريات مستنسخا الباب الثاني من دستور 2014 بصفة تكاد تكون تامة مضيفاً إليها بعض الحقوق والضمانات التي لم يحتوِها دستور 2014 “تجريم التمييز على أساس الانتماء “الفصل 19″، وضمان حرية الفرد “الفصل 26″، وحقوق الأطفال المتخلّى عنهم أو مجهولي النسب “الفصل 52 “، وحقوق كبار السن “الفصل 53”. إلا أنه ورغم ذلك، يحمل المشروع عديد المخاطر على الحقوق والحريات وخاصة الفردية منها وفق ما نبيّنه أدناه.

الخطر الأول: من دولة مدنية إلى دولة تحقق مقاصد الدين الحنيف

لقد ميزت “مدنية الدولة” دستور 2014. وكانت حاضرة في التوطئة والفصل الثاني منه والذي أعلن أن “تونس دولة مدنية تقوم على المواطنة وإرادة الشعب وعلوية القانون. لا يجوز تعديل هذا الفصل”، وكذلك في الفصل 49 والذي أكد على أن تقييد الحريات يجب أن يكون “لضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية”. وبقراءة مشروع الدستور الجديد، نلاحظ غيابا تاما لمفهوم مدنية الدولة وحضور مفاهيم وآليات من شأنها ضرب هذه المدنية.

الطابع الديني الخطير لدستور 2022

رغم حذف عبارة دين الدولة من الفصل الأول من الدستور، إلا أن الدين يبقى حاضرا بصورة قد تهدد الحقوق والحريات. ففي حين أشار الدستور في ديباجته إلى الأبعاد الانسانية للدين الاسلامي، فإنه عاد ليؤكد في فصله الخامس على “انتماء تونس للأمة الإسلامية والدولة وحدها تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف والحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية”. وبذلك، بموجب هذا المشروع في حال إقراره، تتحول الدولة من دولة محايدة شعبها مسلم وهي مدنية إلى دولة تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام. وبذلك يصبح العامل الديني وتحديدا الإسلام مكوّنا ليس فقط من مكونات الثقافة، بل عنصرا من عناصر الحياة السياسية والقانونية للدولة. وأن تعمل الدولة على تحقيق مقاصد الإسلام إنما يوجب عليها مراجعة تشريعاتها وتركيبة مؤسساتها بما ينسجم مع مقاصد الإسلام. وبذلك، يكتسب الدين دورا فاعلا ومدسترا بعدما كان مجرّد عنصر توصيفي ثقافي في دستور 2014 يتوقف عند حدود الدولة المدنية الكفيلة في إيقاف أي مشروع ديني أو أي مسعى لتغليب الاعتبار الديني في تشريعات الدولة.

ومن شأن إقرار الاعتبار الديني على النحو المقترح أن يرتّب انعكاسات هامة فيما يتعلق بالتشريعات المستقبلية والحدود المفروضة عليها وعلى ضمانات حمايتها.

الخطر الثاني: تقليص ضوابط تقييد الحقوق والحريات

رغم استعادة الباب الثاني من دستور 2014 كاملا في مشروع دستور الرئيس وإضافة بعض العناصر التي لم يحتوِها كتجريم التمييز وحقوق الأشخاص المسنين وحرية الفرد كما سبق بيانه، إلا أن مشروع الدستور قد وضع ضوابط على الحقوق والحريات من شأنها الانتقاص منها أو حتى المسّ بجوهرها.

في تعدد الاحالة على القوانين لتنظيم الحريات دون ضوابط عليها

تعددت الفصول التي تحيل على القانون لتنظيم الحقوق والحريات كالحق في الحياة وحق الملكية والإيقاف والاحتفاظ والانتخاب والاقتراع والتغطية الاجتماعية. وهو ما من شأنه أن يمنح المشرّع سلطة وحرية مطلقة في تحديد هذه الحقوق، بخاصة أن هذه الآلية التي كان قد كرسها دستور 1 جوان 1959 عادت بالوبال على الحقوق والحريات إلى حدود 2010. وليس أدل على ذلك من قانون الجمعيات لسنة 1959 وقانون الأحزاب 1988 ومجلة الصحافة 1975 وغيرها انتهت إلأى المسّ بحريات أساسية تحت غطاء تنظيمها بقانون.

في حذف الإشارة إلى مقتضيات الدولة المدنية الديمقراطية

استعاد مشروع سعيّد في فصله 55 نص الفصل 49 من الدستور الحالي، بعدما حذف منه توصيف الضرورة التي تجيز تقييد الحقوق والحريات، وهو ما تقتضيه الدولة المدنية والديمقراطية. فبحذف هذين المقوّمين، تصبح الضرورة المبررة لتقييد الحقوق والحريات أي ضرورة يفرضها الأمن العام والدفاع الوطني والصحة العامة وحقوق الغير بمعزل عن مدى انسجامها مع مفهوم الدولة المدنية أو الدولة الديمقراطية وما يفترضانها من مبدئية الحرية وحق الاختلاف والتنوع. وبذلك، يُخشى أن نعود في حال إقرار الفصل 55 كما ورد في المشروع إلى وضعية مشابعة للوضعية التي فرضها دستور 1959 و الذي كان يمنح المشرع سلطة واسعة لتحديد الحقوق والحريات وضربها استنادًا لمفاهيم مطاطة في مقدمتها الأمن العام والدفاع الوطني.

الخطر الثالث: ضعف المؤسسات وتغول سلطة الفرد

من أجل ضمان الحقوق والحريات، لا تكتفي الدساتير عادة في إعلانها إنما تضع مجموعة من الضمانات الهيكلية “المؤسساتية” التي تحيمها وتحدّ من تسلّط أو تجاوز المؤسسات لدورها والتغول على غيرها. ولذا انبنى دستور 2014 على مبادئ دولة القانون والتوازن بين السلط ودور الهيئات القضائية والهيئات الدستورية المستقلة وعلوية المحكمة الدستورية. وبالنظر إلى مشروع دستور الرئيس، نلاحظ وجود العديد من المخاطر الهيكلية في هذا الخصوص.

الرئيس الأعلى والأسمى: يمنح مشروع الدستور رئيس الجمهورية صلاحيات كبرى وسطوة على جميع المؤسسات ولا يخضع في ذلك لأي لوم أو مساءلة. وهو ما نص عليه الفصل 108 أي أن لديه حصانة كبرى تجعله في موقع أسمى من كل المؤسسات، بل المتحكم فيها اذ لا يراقب ولا يحاسب. وما يزيد من خطورة تحصين الرئيس على هذا الوجه هو منحه صلاحية تقديم مشاريع قوانين للمجلس النيابي واللجوء للاستفتاء دون مرور بالمحكمة الدستورية فضلا عن تحكّمه في أغلب المؤسسات من خلال ضلوعه في تسمية أعضائها ومكوناتها واللجوء للمراسيم ذات الطابع التشريعي عند العطلة البرلمانية أو تعذر نشاط البرلمان. وهي وضعية تذكرنا مباشرة بما كان عليه الوضع تحت حكم دستور 1959 وما أدى الى كل تلك الخروقات التي عاشتها الحقوق بهيمنة الرئيس على مؤسسات الدولة. فالطابع الانفرادي بالسلطة وتركيزها في يد شخص واحد “وليس في يد مؤسسة” لا يؤدي إلا للانحراف بها وضرب الحقوق والحريات.

حماية قضائية وهمية: رغم تنصيص الفصل 55 من مشروع الرئيس على تعهد الهيئات القضائية بحماية الحريات إلا أن هذه الضمانة الهامة تفقد قيمتها عندما ينص المشروع على أن القضاء وظيفة ويزيل عنه ضمانات استقلاليته المنصوص عليها دستوريا محيلا تنظيمه إلى “القانون”. وإذا استندنا إلى التوجه الموجود الآن في علاقة الرئيس بالقضاء ومجلسه الأعلى، بإمكاننا أن نتخيل نوع العلاقة التي سيضعها الرئيس في النصوص القانونية القادمة. هذا عدا عن أن الدستور المقترح يجرد الهيئات القضائية من الوظيفة المناطة بها بموجب دستور 2014 والمتمثلة في حماية الحقوق والحريات.

دور المحكمة الدستورية: أكد مشروع الدستور على محكمة دستورية تراقب مشاريع القوانين وتنظر أيضا في دستورية القوانين عن طريق الدفع بعدم دستوريتها. ولكن بالنظر الى تركيبتها التي نص عليها المشروع، نلاحظ بأنها ستكون هيئة مكونة فقط من قضاة عدليين وإداريين وماليين، بما يقصي سائر الفئات والمهن الأخرى وبخاصة التيارات الفكرية و السياسية. من شأن هذا التوجّه أن يحوّل المحكمة إلى هيكل قضائيّ تقنيّ لا ينظر في الأهداف والأفكار والبعد السياسي للنصوص الدستورية، وبخاصة في غياب الحوارات أو الأعمال التحضيرية للمشروع المقترح إقراره. وهو غياب من شأنه أن يجعل رئيس الجمهورية الفاهم الأوحد للدستور والمفسر الأسمى له، فضلا عن كونه صانعه و ناشره و صاحبه.

في نهاية الهيئات الدستورية المستقلة:

أخيرا، محى مشروع دستور 2022 الهيئات الدستورية السابقة ولم يستبقِ منها إلا هيئة الانتخابات، فضلا عن إحداثه المجلس الأعلى للتربية والتعليم. هذا الاختيار الدي سيحرم الحقوق والحريات من هياكل مستقلة قادرة (بموجب علويتها و دستوريتها) على رقابة واقع الحقوق والحريات والإدانة والتدخل لإعادة الحقوق لأصحابها و صاحباتها، من شأنه أن يضعف الهياكل القائمة على ذلك. بمحصلة هذه القراءة السريعة لمشروع دستور 2022، يتبيّن أنّ المخاوف على الحقوق والحريّات جدّية، بالرغم من استنساخه للباب الثاني من دستور 2014. فقد جاء هذا الاستنساخ منقوصا من مبادئه الأساسية وفي مقدمتها مدنية الدولة وديمقراطيتها، كما ترافق مع تجميل الدولة مسؤولية تحقيق مقاصد الإسلام في موازاة إضعاف الضمانات الهيكليّة والمؤسساتية التي من شأنها الحدّ من الاستبداد وحماية الحريات وتكريسها. من هنا، أمكن القول أن من شأن المصادقة على هذا المشروع أن تعرض الحقوق والحريات لمخاطر تقييد غير مبرر أو ضياع.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات