الاستفتاء المبتور و لعنة النسيان

في البداية، أود أن اعتذر من القراء الأفاضل لتعمّدي المغالطة في اختيار العنوان أعلاه. فحديثي لن يكون بالأساس حول استفتاء 25 جويلية كما قد يبدو تأوّلا، لكني خشيت أن يصرِف العنوان الحقيقي أنظار القراء عن المقال لكونه يتناول شأنا قد صار نسيا منسيا بالنظر إلى تسارع الأحداث في تونس مؤخرا. سأحدثكم عن شأن خارج إطار المتابعة العامة غطّته ستائر النسيان التي طالما راهن عليها نظام الانقلاب وربح رهانها.

كثيرة هي القصص الانقلابية المبتورة التي أسالت من الحبر مدادا بحجم البحر ثم سرعان ما حجبتها ستائر النسيان الشعبي والنخبوي على حد سواء وذلك قبل أن تبوح بأسرارها وقبل أن تحدّث بقية اخبارها. طوى النسيان من ضمن ما طوى مثلا مطلب التعرف على الخطر الداهم الذي بسببه قام الإنقلاب، أو مطلب كشف الفيديوهات التي توثق ادعاءات خروج غالبية الشعب تأييدا لإجراءات 25 جويلية عدى أصداء "التزمير", أو مطلب متابعة نتائج التحقيق في دعاوى المحاولات المتكررة لاغتيال الرئيس من تسميم خبز و تفجير ظرف و حفر نفق و استهدافٍ بصاروخ وغيرها؛ أو نتائج تحقيقات مخازن احتكار الحديد والبطاطا، أو مطلب التعرف على بقية القصة المبتورة المثيرة حول أسباب إختطاف البحيري 67 يوما، أو مطلب معرفة نتائج التحقيق في تسريبات نادية عكاشة و قبلها تسريبات مايا القصوري، والقائمة تطول، والقادم أدعى للنسيان إيلافا وتعوّدا وترويضا.

إحدى تلك القصص المبتورة قصة الاستشارة الوطنية الإلكترونية التي سبق لقيس سعيد ان أطلق عليها اسم الاستفتاء الإلكتروني في مناسبات عديدة، وهو ما من شأنه أن يجعل مغالطتي لكم في اختيار العنوان مباحا وأن يُلبس كذبتي فيه حلّة بيضاء، بياض ورقات افتتاح لجنة الصادق بلعيد الاستشارية.

إذا أخذنا بظاهر الأقوال والنصوص و بنينا على حسن النوايا فإن الاستفتاء الإلكتروني الذي حمل شعار "رأيكم قرارنا"، كانت الغاية منه تكوين قاعدة آراء شعبية تكون أساسا لكتابة الد.ج.ج (دستور الجمهورية الجديدة). وهو ما يفترض بداهة أن ذلك الدستور سيكون عصارة ما يجود به الاستفتاء الالكتروني من مخرجات في شكل أفكار ورؤى منبثقة عن مشاركة عامة الشعب الذي يريد وهُوَ يعلم ما يريد (ركّز في المقال بدل التخمين على من يعود ضمير "هو").

هذه الغاية النبيلة، بلا شك، هي ما برر إنفاق ما أنفق عليها من مبالغ هامة من لدن دافع الضرائب عدى المجهودات الجبارة العينية التي سخرتها الدولة لتنظيم الاستفتاء الإلكتروني من نظم و برمجيات معلوماتية وأمن سيبراني ودعاية إضافة الى تحمّل كلفة توفير الانترنات المجاني وما إلى ذلك مما هو معلوم من تسخير لموارد الدولة في زمن هي تستجدي فيه قوت شعبها.

أمّا ما هو غير معلوم فقد لا يكون أقل كلفة من ذلك. فمن بين النفقات المخفية اللاحقة المتعلقة بإدارة الاستفتاء الإلكتروني كلفة تحليل المعطيات التي جمعها، وتحديدا تلك المعطيات ذات الطبيعة النوعية (عدى الكمّية منها). ذلك أن الاستشارة شملت أسئلة على شكل خيارات متعددة ذات طبيعة كمية وأخرى على شكل أسئلة مفتوحة تُجمِّع معطيات نوعية.

فأنت عندما تسأل سؤالا مفتوحا من قبيل "كيف ترى مستقبل تونس في مجال كذا "، فإن الإجابة ستكون على شكل نص غير مقيد بخيارات. نص مفتوح على ما يمكن تخيله وما لا يمكن تخيله سلفا من عناصر إجابة حرة. هذا النوع من المعطيات يتطلب التعامل معها عملا بشريا جبارا مقارنة بالمعطيات الكمية التي تتكفل بمعظم مراحل تحليلها برمجيات الإحصاء. فمن ذلك مثلا أن النص الحر يتطلب تشفيرا حتى يمكن تحليله. و التشفير لا يمكن أن تقوم به برمجيات اعلامية، بل يستدعي مهارات بشرية متمرّنة قادرة على فهم النص وتجزئته إلى عناصر أولية ذات معاني منفصلة ثم بعد ذلك تبويبها بالاعتماد على شجرة أبواب تتشكل اغصانها تباعا مع التعمق في مسار التحليل النوعي.

طبعا، توجد برمجيات إعلامية خاصة بالتحليل النوعي للنصوص تنظم هذا الامر، ولكن عملها يقتصر على تخزين الشفرات و ترتيبها ولا يرتقي إلى القدرة على استنباط الشفرات من نص عربي. بما أن هذا العمل الدقيق مبني على اجتهاد بشري في التشفير والتبويب فقد جرت عادة المختصين في التحليل النوعي ايكال أمر تناول كل نص ( إجابة على سؤال مفتوح) إلى شخصين مختلفين يشفٍرانه بشكل منفصل ثم يقع بعد ذلك حساب نسبة التطابق بين نتائج تحليلهما وكلما كانت تلك النسبة دون 90% يقع توكيل شخص ثالث مختلف بتحليل نفس النص. و قد يتطلب الأمر عقد لقاء مكافحة بين الباحثين لتقريب وجهات النظر حول الطريقة المثلى لتشفير النص محل الخلاف.

الباحثون النوعيون في ميادين علمية مختلفة يقومون بهذا العمل المضني المتكرر و المكلف (و يشمل عادة بضع عشرات فقط من صفحات النصوص) لمجرد نشر مقال علمي قد يكون تأثيره طفيفا على حياة عامة الناس. فلما يتعلق الأمر بكتابة د.ج.ج فلا شك أن توخّي الدقة في تحليل المعطيات النوعية يكون أدعى و أوكد. علما بأن هذا العمل البشري يقوم به أشخاص من المفروض أن لا يقل مستواهم الأكاديمي على مستوى طلبة مرحلة ثالثة أو أساتذة مساعدين.

طيب، كم يا ترى كانت كلفة المسار التحليلي للإجابات على الأسئلة المفتوحة للاستفتاء الالكتروني في أقل التقديرات؟ إذا كان عدد المشارَكات في الاستشارة قد بلغ خمس مئة ألف حسب المصادر الرسمية (أقول عدد المشارَكات بفتح الراء وليس عدد المشاركين. الله وحده يعلم كم كان عدد المشاركين ومعدل عدد مرات المشاركة لكل واحد منهم)، وإذا افترضنا أن واحدة من كل مائة مشاركة فقط تحتوي على إجابات حرة على الأسئلة المفتوحة، وإذا افترضنا أن معدل طول نصوص الأجوبة المفتوحة هو صفحة واحدة لكل مشاركة، يكون العدد الجملي لصفحات النصوص التي تحتاج تحليلا نوعيا خمسة آلاف صفحة.

لا شك أن العدد الحقيقي قد يكون أضعاف ذلك، لكن دعنا نكتفي بذلك العدد الافتراضي الأدنى في غياب معطيات رسمية. تتطلب كل صفحة ما لا يقل عن ساعة زمن من عمل عالي التركيز كحد أدنى بين تشفير و تبويب من كل واحد من الباحثَين المتمرّنين الإثنين الذين يتكفلان بالنص الواحد. لنفترض تكرّما أن نسبة التطابق في جميع النصوص فاقت 90% بحيث لم يحتج أي نص لباحث ثالث او للمكافحة. يكون المجموع اذن عشرة ألاف ساعة من العمل المهني عالي الكفاءة والكلفة لإتمام تحليل الأجوبة الحرة على الأسئلة المفتوحة بمفردها.

واذا اعتبرنا ان مدة تحليل النتائج امتدت على مدى شهرين كاملين بعد تاريخ غلق الاستشارة واعتمدنا مقياس أربعين ساعة عمل في الأسبوع يكون العدد التقديري للباحثين الذين تم تشريكهم في أشغال التحليل النوعي فقط دون غيرها من الأشغال المنبثقة عن الاستفتاء الإلكتروني حوالي ثلاثين باحثا متفرغا لمدة شهرين كاملين. هذا دون احتساب تناول المعطيات الكمية والتأليف بين المعطيات جميعها وتحرير التقارير و مراجعة النصوص و ما يتبعه. و دون احتساب ما سبق ذلك من إعداد للأسئلة واختبارها و تعديلها وتكوين وتمرين للباحثين و تنسيق بين مختلف الأطراف المعنية بالمسار التحليلي.

أسبل النسيان ستائره على مطلب معرفة مصير كل ذاك العمل المضني و ما تطلبه من جهد وتمويل إن كان تمّ على الوجه اللائق بالهدف الأسمى المنوط به، الا وهو استكشاف ما يريده الشعب. فإن لم يكن قد تم على ذلك الوجه فالمصيبة تكون أنكى وأعظم. ولكأن الاعلام الحر والمجتمع المدني التونسي برمته بات تحت تأثير غفوة من تنويم مغنطيسي جمّدت غريزتي المحاسبة والمتابعة لديه.

إذ لم نسمع أصواتا صادحة تطالب بنشر تلك التقارير ولا بنشر مخرجاتها ولا حساباتها ولا مآلتاها. ناهيك وإن الصادق بلعيد رئيس لجنة الحوار طلب في مفتتح لقاءات لجنته من أعضاءها أن يخرج كل واحد منهم ورقة بيضاء و يبدأ بتحرير ما تجود به قريحته حول تخيله لإرادة الشعب. ورقة بيضاء؟!

أموال دافع الضرائب تؤول في نهاية الأمر إلى "فسّخ وعاود" على ورقة بيضاء؟ هل يعني ذلك أن الاستفتاء الإلكتروني برمته كان عبثا؟ ثم تلاه عبث حوار لجنة بلعيد التي لم يكن حظها من مسودتَي دج.ج الرئيس الأولى و الثانية بأفضل من حظ الاستفتاء الإلكتروني من دستور بلعيد. فكان عبثا يتلوه عبث يتلوه عبث يتلوه استفتاء.

و مع ذلك، تبقى ستائر النسيان كفيلة بتحويل كل موجة عبث إلى مرتكز لانطلاق موجة العبث القادمة. كلمة ختام إلى منظمات مجتمع مدني كانت يقظة وإلى إعلام الحقائق الأربعة وفرسان التحقيقات الاستقصائية طوال العشرية نقول دمتم ناسين منسيين غير محاسبين ولا مسائلين. والعاقبة للثائرين.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات