الفذلكة الدستورية بين تونس وسوريا

شهدت تونس شرارة انطلاقة الربيع العربي عام 2010 وتوالت الثورات العربية بعدها في كل من ليبيا ومصر وسوريا ضد أنظمة الفساد والاستبداد مستلهمة من التجربة التونسية شعاراتها متوقعة سرعة انهيارات أنظمتها كما حصل فيها.

عانى التونسيون كثيرًا حتى استطاعوا إنجاز دستورهم عام 2014 والذي يعتبر ثاني دستور ينجزه التونسيون بعد استقلالهم، حيث عكس الدستور الجديد مخاوفهم من عودة الديكتاتورية عن طريق توزع السلطات وجعل الحكم برلمانيا وليس رئاسيا.

أمّا إذا انتقلنا إلى قصة دستور سورية فقد أنتج السوريون منذ عام 1920 خمسة دساتير ثلاثة منها قبل إنقلاب حزب البعث عام 1963 كان دستور 1950 الأكثر تميزًا وحاز على القبول الشعبي، وإثنان منها بعد انقلاب حافظ الأسد 1970، الأول عام 1973 والذي كرس فيه حزب البعث حزبًا قائدًا للدولة والمجتمع والثاني بعد انطلاق الثورة السورية عام 2012 للتحايل على مطالب الثورة السورية بالحرية ودولة القانون.

أصبحت قضية الدستور في عالمنا العربي حصان طروادة للمستبدين وإحدى وسائل الانقلابيين للعودة إلى عصر الديكتاتورية وأداة رئيسة لإزالة كافة أدوات الديمقراطية من الشعوب للتعبير عن مطالبهم وحقوقهم ومحاسبة رؤسائهم.

هناك مؤشرات سلبية تنذر بانتكاسة كبرى قادمة إلى تونس إن لم يتم محاصرة توجه قيس سعيد فرغم البون الشاسع بين واقع تونس المتراجع بشدة وواقع سورية القاتم، إلا أنهما اشتركا خلال الفترة السابقة بقضية كتابة الدستور.

التوافقات والتباينات في مجال كتابة الدستور بين تونس وسوريا:

1 ـ أسباب طرح قضية الدستور:

في تونس ظهرت رغبة الرئيس قيس سعيد في إقصاء القوى السياسية من المشهد التونسي بعد فترة قصيرة من انتخابه وأيضا تكريس السلطات بيده مما جعل كتابة الدستور بداية ضرورية لذلك، في سوريا اخترع موضوع كتابة الدستور المبعوث الأممي السابق دي ميستورا عبر سلالة الأربعة عام 2017 بسبب توقف مفاوضات جينيف المسار السياسي الأساسي وملء للفراغ.

2 ـ الزمن المستغرق في الإنجاز:

في تونس تم سلق الدستور خلال قرابة شهر بناء على أوامر من قبل الرئيس قيس سعيد، في سوريا لم تنجز اللجنة الدستورية شيئا رغم انقضاء ٣٨ شهرًا ولا يوجد أي ضوء في آخر النفق بسبب سوء أداء رئيس اللجنة الدستورية هادي البحرة الهزيل وعدم متابعة هيئة التفاوض المسيطر عليها من قبل "G4" وضع جدول أعمال بشكل مسبق ذو سقف زمني واضح.

3 ـ اختيار أعضاء فريق كتابة الدستور:

في تونس اختيرت الأسماء بطريقة سلطوية تم خلالها استبعاد القوى السياسية والكفاءات، ورغم كل ذلك تم استبدال النسخة المعدة من قبل اللجنة المعينة بنسخة مختلفة قدمها قيس سعيد للشعب، وفي سوريا كذلك اختيرت الأسماء بطريقة مريبة بعيدًا عن الكفاءات والمختصين.

4 ـ الرؤية:

في تونس الرؤية واضحة نحو نظام استبدادي، لا يخضع فيه الرئيس للمساءلة والمحاسبة والعزل وتقزم فيه كافة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وتحول إلى مجرد وظائف، وفي سوريا نجد أنّ النظام لم ولن يتنازل عن حكم عائلة الأسد الوراثي والدولة البوليسية، أما الفريق المتصدر للمشهد السياسي من المعارضة فهو بلا رؤية مدروسة معتمدة فيما بينهم.

إنّ الوصول إلى دستور قادر على فرض استقرار البلاد مهم لكن الأهم تعزيز مناخ الحريات وحماية المواطنين من تغول الحاكم وأجهزته القمعية، فالجمع بين الاستقرار والحريات يتطلب التوافق والانسجام بين أركان الدولة بكافة مؤسساته خاصة العسكرية والأمنية والقضائية وكذلك مع المجتمع بكافة أطيافه.

ما تزال اشكالية استمرارية النمط الديكتاتوري في العالم العربي راسخة حيث أنّ غالبية بلدان العالم العربي تعاني من رغبة المنظومة العسكرية والأمنية بالإستئثار بكامل السلطات، وللمفارقة توقع المحللون السياسيون أن تكون فترة قيس سعيد داعمة لترسيخ دولة المواطنة والقانون بسبب خلفيته كأستاذ جامعي متخصص في القانون الدستوري لكن ما حدث خالف هذه التوقعات وأكد على رسوخ الفكر الاستبدادي لدى بعض النخب.

إنّ مفهوم الدولة الحديثة قائم على توازن السلطات والتجربة الأمريكية في هذا المجال تستحق الاحترام والتدبر، فعندما فكر ترامب بالاستئثار بالحكم وقفت في وجهه كافة السلطات وأولها العسكرية وحتى حزبه رفض ذلك عبر نائبه مايك بينس.

لقد كُتب الدستور الأمريكي خلال أربعة أشهر من أيار إلى أيلول ١٧٨٧ ودخل حيز التنفيذ ١٧٨٩ ولم يجر عليه سوى ٢٧ تعديلا طفيفا لم يمس جوهره.. ورغم انقضاء ٢٣٣ عامًا على إنشائه إلا أنه لم يتكلم أو يتذرع أحد بأنّ هذا الدستور رجعي قديم وأكل عليه الدهر وشرب وأنّ طبيعة المرحلة تقتضي كتابة دستور جديد لكي يحققوا مصالحهم ويزيحوا من طريقهم المنافسين لهم، فاستقرار الدول وتطورها من استقرار دساتيرها، والدورة التداولية في الحكم ضرورية لبناء وطن يستوعب الجميع وإقرار ذلك بدستور يحفظ ذلك الحق مع خلق أنياب له تمنع الطامعين بالحكم والداعمين للاستبداد من تحقيق رغباتهم السلطوية.. وقد نبه المفكر عبد الرحمن الكواكبي قبل أكثر من قرن لذلك في "كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" عندما قال: "إنّ أصل الداء الاستبداد السياسي ودواءه دفعة بالشورى الدستورية".

وأضاف: بأن "الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب".

ما تزال حالة المواجهة قائمة منذ قرن بين منظومة الاستبداد وتطلعات الشعوب للحرية والنهضة والتطور في عالمنا العربي فقبل قرن أنشد الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي:

إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ *** فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَـدَر

وَلا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِــي *** وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر

والسؤال المطروح حاليا: هل انكسر القيد إلى غير رجعة أم أنّ محاولات المستبدين بإعادة العجلة إلى الوراء تجعل صيرورة النضال بين الأحرار والطغاة مستمرة خلال الأمد القريب؟

إنّ واجب الوقت حاليا يتطلب من كافة القوى المناصرة للحرية حقيقة ـ وليس مجرد شعارات ـ مراجعة سريعة تنبذ الخلافات وتعزز المشتركات فيما بينهم لمواجهة الاستبداد والانتهازيين والقضاء على مؤامراتهم قبل أن يقضى عليهم وقديمًا قيل أكلت يوم أكل الثور الأبيض.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات