في 1984، كنت صغيرا على الحب والغربة والشماتة، كنت أجلس وحيدا على بعد أربعة مدن عن عالمي العائلي، في قهوة البلار على الطريق وسط ضوضاء سيارات الأجرة في مدينة تاجروين التي وصفها بعض أنصار فريق كرة جريدي بأنها "طويلة كالقلاصد": مدينة بلا قلب أقيمت للعابرين على عجل على حافتي الطريق، أشرب وحيدا قهوة اسكبراس بلا سكر، شماتة في نفسي وفي العالم البائس، وكما لو كان صاحب المقهى يزيد غربتي، فقد كان يضع أغنية "حب إيه" لأم كلثوم بشكل دائم. بعد 38 عاما، ما يزال للأغنية نفس طعم مرارة القهوة بلا سكر والغربة وحب الريفيين السخيف لسذاجته والغباء الذي أبدو فيه مثل un chien dans un jeu de quilles
أنا أصلا، كانت تبدو لي مدينة تاجروين في ذلك الشتاء القاسي على هيئة منفى حيث لا أحد يحبني ولا أعرف فيه أحدا وسط الرياح الباردة المتضاربة، وكان يأكلني الحنين والإحباط مثل دود خفي وأنا أرقب كل ليلة من شباك قاعة النوم الجماعي في الطابق الثاني من المبيت أضواء قرية ونزة الجزائرية إلى جانب جبل سيدي رابح التي أسمع منها في أواخر الليل أزيز الدراجات النارية البعيد وسط صمت السهول الباردة في مكان محاط بواد جاف تسكنه الغربان التي تنوح علينا وعليّ،
ذات مرة، بداية عام الباكالوريا، كنت عائدا من مدينة الكاف إلى تاجروين، أهداني صديق كتاب "أرخبيل الغولاغ" للكاتب ألكسندر سولجنتسين في طبعة فرنسية رخيصة l’archipel du goulag فوجدت نفسي أزداد انحدارا نحو الإحباط مثل من يتناول مخدرا مميتا وأنا أنجذب نحو قصص أنطون تشيخوف خصوصا الأخوات الثلاث والعم فانيا، وأعتقد أن تلك النصوص الحزينة قد دفعتني إلى مزيد العزلة وجعلت غربتي مضاعفة وجعلتني أفكر في الكتابة بصفتها شكلا راقيا من أشكال ترتيب الأحداث السيئة في هذه الحياة الكئيبة،
لا علاقة لي بتاجروين التي قضيت فيها عاما ونصف العام فقط وخرجت منها بملابس النوم إلى السجن مدة ثلاثة أعوام ولم أصف حتى اليوم حسابي معها، خصصت لها فصلا كاملا في رواية "أحباب الله" تحت عنوان "تاجروين: لسنا مسؤولين على سلامتك"، عدت إليها مرارا بطرق تزداد تحديا، وجدتها بلا ذاكرة أصلا.
من باب العدالة أن أقول إن محنتي الأصلية بدأت حين حملني أبي على كتفيه من سركونة إلى ملاق عام 1971 بوصية لي: "لا تكن بغلا مثل أبيك" ولحارس المدرسة: "اقتله وحاسبني بجلده" وتركني فلم يبق لي منه سوى رائحة تبغه القوي وصورة غطاء رأسه الكبير والعديان والغرباء، كان يفترض أن أمتلك عشرين نعجة وستة كلاب وأعيش في الغابة ومنها وأتزوج احدى بنات الأقارب وأنجب ستة أبناء، أودعني أبي عند خالته دادا الزهرة طيب الله ثراها لكي لا يأكلني الذئب كما أكل صديق طفولتي "جمال ولد جفال" الذي لم يحظ بقبر لأننا لم نعثر منه إلا على ما تركته الذئاب من قدميه في فردتي البوط البلاستيك عام 1972،
ثم اكشتفت لعبة آدمية شديدة الجمال كأنها دمية على هيئة طفلة بيضاء غبية كانت معي في القسم ولم تكن تقدر على كتابة حرف ب، لهوت معها في شجرة التوت وراء المدرسة وأريتها كيف تفتح العصافير أفواهها دفعة واحدة في العش حين تحس بأية حركة متوهمة أننا أمها، ولأنها أرتني أثناء الدرس الخدش الجميل في أعلى ساقها لأنها لم تعرف كيف تنزل مثلي من الشجرة مثل القردة، فإن أباها ومدير المدرسة وكل المعلمين قرروا أن يحقنوا حقنة بهائم كبيرة في أذني إلى أن تبولت على نفسي، لجرأة الانديجان على الاستقراطية، من وقتها بدأ كرهي لهذا العالم،
نجحت متفوقا في الأقسام الأولى، وقد عاني أبي لموسمين على الأقل بين حراس الرئيس بورقيبة وهو يقدم لي جوائز سخيفة كل صيف ثم في امتحان السيزيام، أظن كنت الثاني على الولاية، لم يكن في قرية ملاق ولا في دشرة نبر معهد ثانوي وقتها، أنا دخلت المعهد الثانوي التقني بالكاف موسم 77/78 مقيما في المبيت تحت رقم 879 الذي طرزته أمي في كل ملابسي الإجبارية التي تكلفت ثمن ثلاثة جديان: 21 قطعة، ثلاثة من كل صنف من القلصون إلى الخلعة والقلاصد مع منشفة بطول 60 سم في trousseau مثل العروس، المعهد الفني كان مدينة بحالها تحتاج إلى أشهر لاكتشافها وكان أجمل ما فيه أيام الأربعاء لنوادي السينما والسياسية وبعد زوال الجمعة للمنافسات الرياضية والسبت والأحد للهملة وتعلم التدخين والإجرام اكتشاف الأشياء السيئة في المدينة الفاجرة،
أطردت من المعهد ثلاث مرات ثم نهائيا في 1983 بسبب التشويش والإضرابات ونشر المناشير وأي شيء ضد السلطة والإيقافات العنيفة في مركز الشرطة الذي يقابل باتسيري قازة حيث كنا نأكل كعبة مليفوي لعلاج ساعات الضرب، لكن كبار الباقين من أهلي بركوا أمام مندوبية التعليم حتى أعادوني إلى معهد أصغر في المدينة، لسبب ما، أراد صديق قديم اسمه الحبيب الشارني أن ننتقم من زميل لنا، سرق شك فلفل أحمر كان يجف على سور بيت في حي الصخرة وأراني كيف نحك الفلفل في عيني الزميل، نجونا من السجن أصلا، لأن الولد كاد يفقد بصره، ومع مشاكل أخرى تسببت فيها للإدارة، أطردت نحو تاجروين، حيث لا أعرف أحدا، حيث قرأت أدب النفي وسولجنستين وتشيخوف، وراجعت علاقتي باليسار،
وقتها، كانت تاجروين تغلي باليسار، لكني عرفت أني لن أنجح في أن أكون يساريا إلى الأبد، أنا أساسا ريفي محافظ لا علاقة له باليسار ثم إني كنت أعيش عزلة لا تثمر غير الأسى، ثم إني مزاجي عاطفي يمكن أن يغير رأيه بسهولة، لا يصلح للانضباط السياسي ولا الإيديولوجي، كان أحد أقاربي يقول عني إني لا أصلح إلا أن أكون مهرب مازوط وبطريات وإينوكس من الجزائر،
إلا أن تاجروين كانت قاسية، الوضع كله كان قاسيا، فقد تعاركت مرة في المعهد مع طفل أقل مني بثلاث سنوات، فقال لي إنه سوف يشوه وجهي بموسى معتمدا على أهله من أنقار المحاميد، قضيت نهاية ثلاثة أسابيع خائفا، أنا أصلا لا أنال اهتمامها في تلك الغربة ولا شك أني أبدو لها مثل طفل معتوه بلا أم، فما بالك إذا تشوه وجهي إلى الأبد بموسى، التفت حولي بحثا عن النصرة، فلم أجد سوى العزيز نبيل الذي أطرد بسببي ومعي من الكاف ظلما وأصبح اليوم أستاذا في الثانوي وأبا لعائلة كريمة قال لي: "إن لم أجد لهم صحة سأعض"، وعمر الذي لن أسمي لقبه، رغم شجاعته فهما لا يكفيان لحمايتي من مبيت المعهد إلى قهوة البلار حيث أم كلثوم وسيارات الأجرة والموسى في وجهي، بعدها سمعت أن عمر لاحقه العسكر بطائرة هيلوكبتر عبر الحدود وهو يهرب إلى الجزائر، قلت "راجل والله" كما أعرفه في الصغر،
أولا، هذا النص، مثل كل الكتابات، محاولة نبيلة لعلاج الأشياء السيئة بالكتابة، وليس فيه أي كره لتاجروين التي أحب أهلها وفيها جزء كبير من الشوارنية، ثم إن الجريدية لم يعرفوا أن مدينة تاجروين مليئة بالأسرار والكنترة والتهريب والطرائف، رغم غلاء العجلات المهربة، إنما هي مدينة جميلة، والله أعلم،