وقد رأيت اليوم بعض التأسّي أو الخيبة عند أهل العزم والنصيحة، وددت أن أقتطف لمتصفحي فايسبوك بعض الكلمات من نص نظري (مبسط للعموم) كنت قد نشرته في 1 سبتمبر 2021 في جريدة «المغرب». والمعقوفات تشير إلى النص المحذوف بهدف اقتضابه هنا ما أمكنني الاقتضاب. لم أضف شيئا جديدا مطلقا إلى ما كتبته قبل 10 أشهر إلا بعض الحروف أو بعض الكلمات التحريرية اللازمة للاقتضاب وللربط.، أما الأفكار فهي هي على علاتها.
في كل حالة سياسية قُصْوَى تفترض الوضع الاستثنائي أو تفرضه، يكون «الما بعديُّ(apostériori)» — سواء كان مأمولا أو مكروها — كامنا في «الما قبليّ (apriori) » كمونَ النّار في الحجر [...] فإنّ النتائج الممكنة للإجراء الاستثنائي حاصلة من الأول في المقدمات [...] فنتيجته لا تُخترَع، وإنما تُكتَشف فقط بتحليل القضية الأصل، أي المقدمة المعطاة [...] : فالبرعُم يستبق الثمرة الطازجة، بل وإنّ الثمرة طازجة منذ البدء في الاستثناء. [...] وهكذا فإن التطور اللّاحق لن يزيد شيئا مهمّا على ما يرشح به مبدأ الاستثناء حالما يتمّ إجراؤه.
ولا وجود فيه للغموض البتة إلا لمن يستعصي عليهم الفهم، أو لمن يقبلون بأن يدغدغ الوهمُ انفعالاتِهم، أولمن يريدون إيهام غيرهم من الناس، أو لمن يتّخذون من الغموض ذريعة للتقية. فليس هناك في العلوم السياسية أوضح وأفصح ولا أكثر تماسكا داخليا من الوضع الاستثنائي، وذلك بسبب قيامه على ذاته لا على غيره. [...].
فإنّ صاحب السيادة الحقّ هو صاحب القرار الباتّ أو الفيصل عندما «ا يقرّر أمرَ الحالة الاستثنائية»، أي يبُتُّ فيها بلا مضادة (كما يرى كارل شميت). ولذا فإن صاحبَ السيادة «ذاتيُّ المرجع» و«ذاتي الإحالة» (autoréférentiel)، باعتبار السيادة غير قابلة للقسمة من منظوره هو على الأقل، لأنها لو تُقوسِمت لفسدت أو بطلت [...]. وها هنا تنغلق الدائرة، وتستوي المقدمات مع نتائجها. [...].
فليس الإجراء الاستثنائي سكة قطار تحملنا إلى محطة نهائية، بل إنّ «المحطة» هي القطار المتحرك نفسه. الاستثناء من جهة ووضع شروط له من جهة ثانية هما أمران لا يلتقيان [كالخطوط المتوازية في هندسة إقليدس]. إذا كان الاستثناء «مشروطا» فهذا يعني أنه لم يعد قائما بذاته.
إنّ احتراس صاحب السيادة (أو فطنته) إنما يكون بإزاء كلّ فعل من شأنه أن يفقده المرجعية الذاتية فيناقض بذلك مبدأ السيادة التامة الذي يحرّكه. [...] وهنا تنعكس مرتبةُ الغاية ومرتبةُ الوسيلة: فإنّ ما كان غايةً يتحول، في حقيقة الأمر، إلى وسيلة، وما كان وسيلةً يتحول إلى غاية.
ولذا فلا بديل للحكيم عندما يشاهد الناس يضعون لصاحب الإجراء الاستثنائي شروطا، وتحفظات نقدية، وأمانيَ، وآجالا، ونصائح، لا يسعه إلا أن يبتسم وأن يستحضر عبارة سبينوزا: «دعهم وشأنهم يهذون»! لأنّ الاجراء الاستثنائي يستثني كل شيء عدا نفسه، وعدا نواياه ومقاصده، فلا يوجب من الغير إلا حسن الظن به والاعتقاد فيه.
الحالة القصوى و"حقيقة" العالم، والأشياء، والحالات، والأحوال.
طالما انشغلت بالحالة القصوى والتي تبدو "شاذة" فهي تخبرنا بحقيقة الحالات الاعتيادية وبما يعتمل في داخلها من غير أن يعي به الحس المشترك: .رُبَّ حالة شاذة واحدة خير من ألف حالة سوية كما يرى ديدرو الفيلسوف.
القاعدة العامة نتعلمها أكثر بواسطة الاستثناء الذي يؤكدها. الحالة القصوى مثلها مثل الأعراض الحادة في الجسم المريض تكشف عمّا لا يمكن إدراكه من دونها. والناس بما في ذلك اصحاب الفكر النير والنخب الذين يجارون الأوضاع القائمة فيلتقون مع الحس المشترك ولو بأخذ طريقة "مثقفة" ملتوية أو مدخل ضيق، جميعهم يتحصنون بالعناد أذا أظهرتَ لهم مسبقا ما يعتمل في جوف الأشياء غير المرئي.
ولذا يلزمهم الحالة القصوى التي تكشف عن الحركة الداخلية فتصعقهم الدهشة مثلهم مثل الأطفال الذين يندهشون من مشهد الزهور في الربيع لانهم لا يدركون ما يعتمل تحت أديم الأرض خلال الشتاء القارس.
ما ذكرني بهذه الأفكار القديمة عندي هو العبارة الجميلة والفطنة التي قالها دميتري بوبوف (اظنه هو نفسه لاعب الكرة الروسي) ساخرا من ترديد الناس لعبارة "العالم ينقلب" فيرد عليهم: العالم لم ينقلب فهو مقلوب من أصله، ولكن حدوث حالات بليغة تكشف للناس عن وجهه الحقيقي.