"غياب المساءلة تربة مثالية للفساد والاستبداد "
ياسر ثابت
صدر بالرائد الرسمي عدد 74 الأمر الرئاسي عدد 578 لسنة 2022 المؤرخ في 30 جوان 2022 المتعلق بنشر مشروع الدستور الجديد للجمهورية التونسية موضوع الاستفتاء المقرر ليوم 25 جويلية 2022 و صدر بالرائد الرسمي عدد 77 الأمر الرئاسي عدد 607 لسنة 2022 المؤرخ في 8 جويلية 2022 المتعلق بإصلاح أخطاء تسربت الى الأمر عدد 578 لسنة 2022.
رغم صدور الأمر الثاني بقيت قائمة المآخذ الأساسية على مشروع الدستور موضوع الاستفتاء هي نفسها تقريبا . و من هذه المآخذ استفراد رئيس الجمهورية بجلّ السلط و الصلاحيات و نفي المسئولية عنه وهو ما يمثل ردّة عن دستور جانفي 2014 و استنساخا لدستور جوان 1959. لكن هناك من يعتبر هذا الطابع الرئاسوي من عناصر القوة في مشروع الدستور اذ انه سيمكن البلاد من استقرار سياسي غاب في العشر سنوات السابقة و دعا الى الإقبال على الاستفتاء و الى التصويت بنعم.
انطلاقا من هذا الجدل فسنحاول في هذا المقال الوقوف عند منزلة الرئيس في التجربة الدستورية في تونس مأخوذة من جهة خضوعه للمحاسبة التي قد تفضي إلى عزله بحسب ما هو مقرر في بعض المدونة الدستورية وحتى إلى تتبعه جزائيا في حال ارتكابه لأفعال موجبة لعقاب جزائي؟
محاسبة الرئيس في التراث الدستوري في تونس
عرفت البلاد التونسية منذ العهد الحسيني لاسيما منذ ولاية محمد (بفتح حرف الميم) باي عديد النصوص التأسيسية التي تنظم الحياة السياسية من حيث مؤسسات الدولة و علاقتها فيما بينها و من حيث علاقة التونسيين (رعايا ثم مواطنين) بمن يحكمهم و اختلفت هذه النصوص في موضوع مساءلة رئيس الدولة سواء عندما كانت الدولة مملكة أو بعد أن تحولت إلى جمهورية. فلئن أقرت بعض هذه النصوص مسئوليته فإنّ بعضها الآخر لم يتعرض لهذه الموضوع وهو ما يعني نفي المسؤولية عنه.
نستعرض في هذا المقال النصوص التأسيسية التونسية منذ العهد الحسيني التي تتضمن مسؤولية رئيس الدولة التونسية امام المجلس النيابي وتعني هذه المسؤولية قانونيا أوّلا امكانية عزله إذا ارتكب اي خطأ يلحق الضرر بمصلحة البلاد و ثانيا امكانية إحالته على القضاء الجزائي اذا جرّم القانون الخطأ الذي ارتكبه و هذه النصوص هي :
* قانون الدولة التونسية المعروف بدستور 1861
دستور 1 جوان 1959*
* القانون التأسيسي عدد 6 لسنة 2011 المؤرخ في 16 ديسمبر 2011 المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية وهو يستعمل مصطلح الإعفاء.
* دستور جانفي 2014
تجدر الاشارة اخيرا الى ان سلطة الاحتلال الفرنسية اعتبرت كلاّ من معاهدة بارد الممضاة يوم 12 ماي 1861 اتفاقية المرسى الممضاة يوم 8 جوان 1883 تقران مسؤولية رئيس الدولة التونسية ممثلا في الباي عن افعاله و اعتمدت عليهما في قرار عزل محمد المنصف باشا باي بحجّة ان جلوسه على العرش يسبّب للإيّالة مشاكل أمنية داخلية و خارجية لكن اسباب عزله هو نفسه التحرّري عن سلطة الاحتلال مثل اتخاذه دون الرجوع اليها قرارات سيادية فقد كوّن حكومة تونسية يرأسها محمد شنيق و اعترض على الاجراءات العنصرية ضد اليهود التونسيين التي طالبتها الحكومة الفرنسية برئاسة الماريشال "بيتان" المتعاونة مع المانية النازية و كانت له مشادات مع المقيم العام الفرنسي.
1 )) دستور 1861 : مسؤولية الملك أمام المجلس الكبير
اصدره محمد الصادق باي الذي تعهّد عند مبايعته باحترام عهد الامان الذي اعلنه سلفه محمد (بفتح حرف الميم) باي و تعهّد بإتمام ما كان شرع فيه و يتميّز هذا الدستور بالتأكيد على مسئولية.
الملك ان خالف القانون
دستور عهد الامان هو القانون الذي يتعين على الملك احترامه ومخالفته موجبة لانحلال بيعته . وهو الميثاق الذي أمّن الرعية و سكان الإيالة في ابدانهم و اموالهم و اعراضهم و سوّى بينهم امام القانون ونص على إحداث محاكم للنظر في الجرائم و للنظر في النزاعات التجارية و هو ايضا الدستور الذي سعى محرّروه الى تحديث الدولة التونسية من خلال مؤسسات تشارك الباي في بعض سلطاته و في اتخاذ القرارات مثل تخصيص المحاكم بالنظر في النزاعات و البت فيها وتخويل المتقاضين حق الطعن في الاحكام الصادرة عنها بعد ان كان الباي يجلس للقضاء بين المتخاصمين.
و من مظاهر تحديث الدولة ومشاركة الباي في سلطاته احداث المجلس الاكبر الذي جعل لحماية حقوق الملك و لكن ايضا لحماية « حقوق السكان و المملكة « حسب صريح الفصل الثالث من الباب الثالث المتعلق « بترتيب الوزارات و المجلس الاكبر ومجالس الحكم » و المقصود بهذه الاخيرة المحاكم على اختلاف انواعها.
و اسند هذا الدستور في الباب السابع للمجلس الاكبر صلاحيات عديدة منها التشريع و النظر تعقيبيا في الطعون ضد احكام مجالس التحقيق وهي بمثابة محاكم استئناف و مراقبة حسابات الدولة و منها عملا بأحكام الفصل من هذا الباب صلاحية رقابة دستورية القوانين و هو يعرّف المجلس الاكبر بأنّه « المحافظ على العهود و القوانين و الحامي لحقوق جميع السكان و المانع من وقوع ما يخالف اصول القوانين وكل ما يقتضي عدم مساواة الناس امام المحاكم.
يمثّل عهد الأمان والدستور المنبثق عنه نقلة نوعية في مفهوم السلطة في الإيالة التونسية اذ مثل انتقالا من الحكم المطلق الى الحكم المقيّد بقانون اذ جعل ضوابط متّفقا عليها مسبقا يسيّر الملك في اطارها شؤون الدولة فإذا خرج عنها او خالفها تترّتب عنك ذلك مسئوليته فتنحلّ بيعته.
تتضح مسئولية الملك في نص اليمين الذي يؤدّيه عند بدء ولايته فهذه اليمين هي شرط صحّة اساسي أوّلا لجلوس الباي بصفته ملكا على عرش المملكة التونسية و ثانيا لبقائه ملكا إلى حين وفاته لأنه مهدّد بانحلال البيعة اذا عمد الى مخالفة قانون البلاد.
هذه اليمين هي موضوع الفصل الأوّل من الباب الثاني المتعلق بما للملك من الحقوق و بما عليه فالملك مطالب بحضور اهل الحل و العقد وهم اهل المجلس الشرعي و اهل المجلس الاكبر بان « يحلف بالله وعهده و ميثاقه ان لا يخالف شيئا من قواعد عهد الامان و لا شيئا من القوانين الناشئة منه (من بينها دستور 1861) و ان يحفظ حدود المملكة » و ينص هذا الفصل على انه لا يتمّ امر للملك دون هذه اليمين وعلى ان عقدة بيعته تنحلّ اذا خالف عمدا القانون.
و تتضح هذه المسئولية في الفصل الثالث من نفس الباب الذي ينص على ان « الملك مسئول في تصرفاته للمجلس الأكبر ان خالف القانون » وعملا بأحكام الفصل السابع من الباب السابع ينظر هذا المجلس في دعاوى محالفة القانون سواء صدرت المخالفة من الملك او من غيره و ما يلفت النظر هو ان هذا الفصل لم يحصر حق رفع الدعوى في اشخاص معينين او جهة معينة بل جعل الحق مطلقا متاحا ل « كل من يدعي مخالفة وقعت في القانون».
و يظهر في هذا الدستور بلا شك أثر فكر المصلحين التونسيين مثل الوزير خير الدين التونسي صاحب كتاب «أقوم المسالك في معرفة احوال الممالك » و مثل الوزير المؤرخ احمد ابن ابي الضياف صاحب « اتحاف اهل الزمان بأخبار ملوك تونس و عهد الامان » الذي يقسّم الحكم الى ثلاثة اصناف هي الملك المطلق و الملك الجمهوري و الملك المقيّد بقانون شرعي او عقلي سياسي و هو يفضل الصنف الثالث لأنّ « صاحبه يتصرف بقانون معلوم معقول في سائر اموره لا يتجاوزه و يلتزم العمل به عند البيعة » و يتأكّد الالتزام في اليمين الذي يجب عليه اداءه عند انتصابه للحكم فإذا خالف عمدا ما التزم به تنحلّ بيعته وهو ما يعني ان مساءلة رئيس الدولة مبدأ أصيل من مبادئ فكرنا الدستوري.
2)) دستور 1 جوان 1957
لم يقرّ دستور جوان 1959 في نسخته الرسمية مسؤولية رئيس الدولة التونسية عما يرتكب من اعمال تضرّ بمصلحتها كان مبدأ المسئولية غائبا رغم وجودها في الاعمال التحضيرية و نذكر منها :
*مسودّة 9 جانفي 1957 قبل اعلان الجمهورية التي نصت في الفصل 79 على تمتّع الملك بالحصانة لكنها أجازت محاسبته في حال ارتكابه الخيانة العظمى من طرف ثلثي اعضاء مجلس الأمة الذي يتكون من غرفتين هما المجلس الوطني و مجلس الشورى و يحيل القضية على المحكمة العليا المتكونة من 15 عضوا ينتخب ثلثيهم المجلس الوطني و ينتخب الثلث الباقي مجلس الشورى.
* المشروع المؤرخ في 30 جانفي 1958 بعد خلع محمد الأمين باي وإعلان الجمهورية و الذ ي يقرّ في الفصل 90 مسئولية رئيس الجمهورية و مسئولية اعضاء الحكومة « عمّا يرتكبونه من الخيانة العظمى » و تجتمع للغرض المحكمة العليا. لكن دستور جوان 1959 في نسخته المعتمدة رسميا جعل المحكمة العليا لا تنظر إلاّ في الخيانة العظمى التي يرتكبها الوزراء معتبرا رئيس الدولة معصوما لا يرتكب هذه الجريمة او اي جريمة اخرى موجبة للعقاب.
3 )) القانون التأسيسي عدد 6 لسنة 2011 المؤرخ في 16 ديسمبر 2011 المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية وهو يستعمل مصطلح الإعفاء
هذه المسؤولية هي موضوع الفصل 13 من هذا القانون الذي تناول في فقرته الأولى باقتضاب مسألة عزل رئيس الجمهورية من مهامه و أسند هذه الصلاحية للمجلس الوطني التأسيسي و نص على انه يمكن لهذا المجلس « ان يعفي رئيس الجمهورية من مهامه بموافقة الأغلبية المطلقة من أعضاء المجلس على الأقل بناء على طلب معلل يقدم لرئيس المجلس من ثلث الأعضاء على الأقل » لكن لم يستعرض الاسباب التي تدعو الى الاعفاء و تركها لاجتهاد اعضاء المجلس.
وتجدر الاشارة الى ان الفصل 2 من هذا القانون عدّد ظاهريا على سبيل الحصر مهام المجلس الوطني التأسيسي التي هي نوعان الأولى بصفة أصلية تتمثل في وضع دستور للجمهورية التونسية و يتمثل النوع الثاني في اربعة مهام هي ممارسة السلطة التشريعية و انتخاب رئيس المجلس الوطني و انتخاب رئيس الجمهورية و الرقابة على عمل الحكومة و لم يرد فيه ذكر مهمة الرقابة على عمل رئيس الجمهورية وتم التنصيص عليها في الفصل 13 المذكور الذي حرّكه ضدّ رئيس الجمهورية السابق محمد المنصف المرزوقي بعض نواب المعارضة في المجلس الوطني التأسيسي و قدّموا لائحة سحب الثقة منه مستوفاة النصاب القانوني لكن سحب بعض المشاركين فيها امضاءاتهم و أثير جدل قانوني هل يجوز سحب الإمضاء من اللائحة ونظرت فيها الجلسة العامة و صوّتت الأغلبية بسقوط اللائحة.
4) ) دستور 27 جانفي 2014
يقر دستور 2014 مسؤولية رئيس الجمهورية امام مجلس نواب الشعب ويقرر امكانية عزله في حالة ارتكابه خطا جسيما هذه الوضعية هي موضوع الفصل 88 من الدستور الذي يستعمل مصطلحين فالمبادرة من اعضاء البرلمان تكون بلائحة معللة لإعفاء رئيس الجمهورية بينما اذا ثبتت الإدانة يصدر الحكم بالعزل و يخوّل هذا الفصل لأعضاء مجلس نواب الشعب قصد إعفاء رئيس الجمهورية تقديم لائحة لإعفاء رئيس الجمهورية لكن لئن يتفق هذا الفصل مع الفصل 13 من القانون التأسيسي عدد 6 لسنة 2011 المذكور اعلاه في اشتراط ان تكون لائحة طلب اعفاء رئيس الجمهورية معلّلة فإنّه يختلف معه كثيرا في بقية الاجراءات وفي موجب طلب الإعفاء وفي صلاحية من يحكم بالعزل وفي بيان ماذا يترتب عن الحكم بالعزل.
لقد بسّط الفصل 13 الإجراءات مكتفيا بأن يقدّم لائحة طلب الإعفاء ثلث اعضاء المجلس الذي يبتّ فيها إمّا بالرفض أو بالقبول بموافقة اغلبية الاعضاء المطلقة و لم يبّن السبب الموجب لطلب الاعفاء و لم يبيّن ماذا يترتّب عن قرار الإعفاء بينما يشترط الفصل 88 من دستور الجمهورية الثانية ان يقدّم لائحة طلب اعفاء رئيس الجمهورية أغلبية اعضاء مجلس نوّاب الشعب ويكون موجب تقديم اللائحة خرق جسيم للدستور يرتكبه رئيس الجمهورية فليس مجرّد الخرق يبرّر تقديم اللائحة وإنّما يجب أن يكون جسيما لكن لم يعرّف مفهوم الخرق الجسيم و ترك تعريفه لاجتهاد المحكمة الدستورية التي تتركّب من 12 عضوا.
اذا وافق البرلمان على لائحة الإعفاء بأغلبية ثلثي اعضائه تحال اللائحة الى المحكمة الدستورية التي لها صلاحية الحكم بالعزل اذا ثبتت الإدانة و يشترط هذا الفصل موافقة اغلبية ثلثي اعضائها لثبوت الإدانة و للحكم بالعزل الذي يترتّب عنه فقدان الرئيس المعزول حق الترشح لأيّ انتخابات أخرى كما يمكن ان يترتّب عنه الإحالة على المحكمة الجزائية.
يتضح من هذه النصوص التأسيسية الأربعة ان ثلاثة منها وهي دستور 1861 وقانون 2011 المنظم للسلط العمومية ودستور 2014 تنص على ان للبرلمان دورا هاما في مراقبة السلطة التنفيذية فلا يقتصر عمله على سن القوانين و إنّما يشمل أيضا رقابة عمل كل من الحكومة و رئيس الدولة و يمكن له مساءلة رئيس الدولة وقد بيّن القانون التأسيسي عدد 6 لسنة 2011 و الفصل 88 من دستور 2014 انه يمكن لأعضاء البرلمان تقديم لائحة معلّلة ضد رئيس الجمهورية قصد عزله اذا ارتكب خطأ جسيما يضرّ بمصلحة الدولة.
ما الذي بقى في مشروع الدستور المعروض على الاستفتاء من هذا التراث الدستوري الذي ركز مفهوم مسؤولية الرئيس امام المجلس النيابي؟ ..لا شيء تقريبا فهو يعود بنا الى دستور 1959 ليجعل بذلك الرئيس فوق المجالس النيابية والأحزاب.. لا يلام ولا يحاسب ولا يعزل لكأنه أصبح بذات وصفات الاهية فهل كان محمد الصادق باي اكثر ديمقراطية من قيس سعيد عندما ختم دستور 1861 و أمضاه و التزم به رغم انّه ينص على انحلال بيعته اذا خالفه عمدا ؟
قد يبدو السؤال غربيا، ولكن هذا السؤال رغم غرابته مشروع بالنظر الى كل المعطيات سالفة الذكر فلنتذكر دائما ان غياب المساءلة تربة خصبة للفساد والاستبداد.