لم يكن محمد الطاهر الكنزاري اسما معروفا سواء لدى العموم او حتى لدى زملائه من القضاة قبل ان يدرجه قيس سعيد في 1جوان 2022ضمن قائمة ضمت 57 قاضيا اطلق عليها القضاة انفسهم تسمية "المذبحة" التي لم تكن الاولى، الا انها مثلت عنوانا بارزا لأطول تحرك(لازال الى الآن مستمرا) خاضه كافة القضاة في تضامن غير مسبوق وبإصرار شديد.!
وبالتأكيد لا شك ان القضاء التونسي لم يشهد في اية لحظة من تاريخه (المعاصر) تقويضا لوجوده واسسه ومبادئه وهياكله فضلا عن "تصفية" اعضائه (من القضاة) بمثل تلك" الفضاعة التي عرفها منذ عام وهو ما يفسر "حدة" النضالات التي اقتحمها القضاة التونسيون لا فقط في سياق تاريخهم الاحتجاجي المنظم (الذي يعود على الاقل الى سنة1946)او في سياق انتمائهم العربي والافريقي بل في ضوء تحركات القضاة في العالم.!
والا كيف لنا ان نفهم "صدمة " المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني باستقلال القضاة والمحامين (دييغو غارسيا سايان) الذي اكد اخيرا انه "ليس على علم بوجود قضاة في أي بلد آخر شاركوا في إضراب عن الطعام، مما يؤكد خطورة قلق القضاة التونسيين على مصيرهم، ومصير القضاء في البلاد."!؟
وكذلك، كيف لنا ان نفسر تحول محمد الطاهر الكنزاري من موقع هدوئه ورضائه وتفانيه" المهني" في احدى محاكم ولاية سليانة وعدم اهتمامه بالحياة العامة الى موقع المتقدم في معركة استقلال القضاء و"المتمرد" على وضعية "المستكين" الى الحد الذي جعله يضحي بجسده من اجل الانتصار لقيم الديمقراطية والتصدي لمظالم عامة وفردية؟
وكذلك، كيف لنا ان ندرك المغزى من صورته التي "غزت" العالم ونشرت في اكبر صحفه (واشنطن بوست: 30 جويلية 2022 في مقال تحت عنوان: لا يوجد حل آخر، قضاة تونسيون في اضراب عن الطعام من اجل الديمقراطية) وابرزت القاضي محمد الطاهر الكنزاري في يومه الثالث والثلاثين بدون طعام(اتم في 28 جويلية الجاري تاريخ نقله الى العناية المركزة الاسبوع الخامس) وهو يفترش ارضية نادي القضاة بسكرة ويلتحف بملاءة منمقة تغطي جسده الضعيف.!؟
اتذكر من زياراتنا اليومية لزملائنا المضربين، ما كان يردده محمد الطاهر الكنزاري من انه كلما تقدم في اضراب الجوع احس بتغيير في وعيه وتصوره لاستقلال القضاء وانه لن يعود مطلقا كما كان بعد ان تحرر.!
لا شك ان صدقه ونزاهته وايمانه بعدالة قضيته فضلا عن اصراره النادر هي التي تفسر حقيقة تأثيره.
ومن الوقائع التي يمكن ان تروى في هذا الصدد ان كامل فريق التلفزة البريطانية - الذي كان منذ ايام في تغطية لإضراب الجوع بنادي القضاة بسكرة - لم يتمالك دموعه وهو يستمع من محمد الطاهر الكنزاري الى رواية بالغة التأثير (لم يسمعوا بها في حياتهم) عن معاناته الشخصية وشعوره بالقهر الذي يتقاسمه مع بقية زملائه المشمولين بقرارات الاعفاء الظالمة!
فمتى سيوضع حد لهذه المأساة ومتى ستجد العدالة مجراها!؟