لو كنا في مجتمع حرّ ولو كانت عندنا صحافة حرة، لكان أجمل عمل صحفي اليوم بعد صدور حكم المحكمة الإدارية تحت عنوان "محنة القضاة" ولطرحنا الأسئلة الحقيقية في مجال العدالة، من السهل أن تعرف كل شيء إحصائي عنهم وعن مسار كل منهم وما أحاط به وترسم خارطة لـ "كيف يصنع الحكم القضائي" في تونس وعلاقته بالـ 57 قاضيا وأن ترابط بكاميرا أمام بوابة وزارة العدل والتفقدية لتسأل عن حقيقة التهم الموجهة إلى كل منهم، لكن الأهم هو أن تطرح الأسئلة الحقيقية، ليس فقط عن تعرض القضاة للظلم، بل أيضا سؤال: متى يتوقف القضاة عن حماية زملائهم الفاسدين والتغطية عليهم، والتغطية على أي فاسد؟ أليست هذه المحنة درسا للجميع؟سأجيبكم:
في 1992، أجريت حوارا مطولا مع قاضي تحقيق كان له شخصية قوية وكان متنفذا وقتها ليس فقط بالاعتماد على السلطات الخرافية لقاضي التحقيق في القانون بل بسبب شخصيته وطريقته في العمل، كان يحقق في قضايا كبيرة منها جريمة قتل في ماخور، فاجأني بأن أسر لي كلاما أنشره لأول مرة: "تلك المومس الشاهد في الجريمة كشفت لي أنها تدفع من جسدها كلفة دراسة ابن شخصية سياسية في كندا، تدفع ثمن هدايا لشخصيات أمنية معروفة من أقساط السيارة إلى الساعة الذهبية، ويحضرونها أحيانا في جلسات خاصة للسياسيين وكبار المسؤولين بصفتها شخصية وطنية مثقفة يمكن تقديمها مكافأة جنسية لمن يريدون"،
قال لي ما لخص به كل معاني معارك القضاء التونسي فيما بعد: « je suis un super flic » كيف سيدي الرئيس؟ قال: "أنا قاض في مكتبه، لكن الحقيقة يصنعها البوليسية ومن يشتغل معهم، أنا لا أملك الميدان"، أنا أدركت زمنا كان يقول فيه المتهم لقاضي التحقيق إن اعترافاته كانت نتيجة التعذيب الشديد فيرد عليه بالأسلوب التاريخي: "تعترف عند البوليسية وتجي عندي تنكر؟" فيعيده إلى البوليسية ويرفض تسجيل أي تدخل للمحامين حتى لطلب العرض على الفحص الطبي، وهو بعض ما يفسر أسباب محنة القاضي الفاضل البشير العكرمي الذي يترفع إلى اليوم عن الحديث عن الحقائق المرة في خضوع القضاء التونسي لما يريده البوليسية رغم أن اسمه هو الثاني في قائمة القضاة المعفيين بأمر رئاسي، لأنه تورط في رفض الحقيقة التي يقدمها البوليسية حول جريمة متحف باردو والتي غير فيها الإنابة العدلية إلى فرقة التفتيش بالحرس الوطني فكشفوا الحقيقة الخفية التي أدت أخيرا إلى تفكيك كامل الجريمة الإرهابية بما فيها جريمة سوسة فلم يغفروا له ذلك وأكلوا لحمه حيا في وسائل الإعلام التي تحتكم إلى بوليس مكسر وعون سجون متهم بالمخدرات وسرقة المعيز في سيارات كراء مسروقة وعون أمن يهدد بسلاحه في بلاتوه تلفزة،
تريدون شيئا أقوى من ذلك: هل تتذكرون يوم 26 فيفري 2018 حين ترك العشرات من أعوان الشرطة عملهم لمحاصرة مقر محكمة بن عروس بمعدات الدولة وأدواتها وهددوا القضاة في مقر عملهم المقدس ونحن نحبس أنفاسنا حتى العاشرة ليلا ولم يرحلوا إلا بسراح زملائهم الثلاثة المتهمين باقتراف جريمة التعذيب التي لا تسقط بالتقادم، قامت لجنة الأمن والدفاع في مجلس النواب بدعوة وزير الداخلية لطفي براهم ووزير الدفاع غازي الجريبي، هل تعتقدون أنه حدث شيء؟ لا، من هو الأقوى في تونس؟ ماذا يحدث لمن يعاند الأقوى؟ يتدقدق، يؤكل لحمه في وسائل الإعلام، من تحدث يوما عما تعرض له وكيل الجمهورية وقاضي التحقيق في محكمة بن عروس تحت تهديد السلاح ومضخما الصوت التي تطلق نداءات حربية من مسلحين؟ من كانت له الجرأة على وصف ذلك بأنه تمرد على سلطة عليا حيث أن كل أعوان الأمن بما فيهم وزير الداخلية خاضعون لقرارات القضاء وعليهم واجب التحية حتى بلهجة الرأس؟
لما كنا صغارا في سنوات الثمانين، كنا نتسلى بنكتة "اعترف أنك أرنب" وهي قصة مسابقة عالمية لفرق الشرطة، يتم إطلاق أرنب في الغابة وينطلق أعوان كل فرقة في أثره باستعمال التقنيات العلمية والكفاءات لتقفي أثره، ربع ساعة وعاد أنقليز سكوتلنديارد بالأرنب، عشرون دقيقة وعاد الأف بي أي، الفرنسيون، غيرهم، انقضى النهار ولم يظهر التونسيون فانطلقت كل الفرق في البحث عنهم، وجدوهم في كهف مظلم، يجلسون قطا أهليا على زجاجة مهشمة الفوهة ويصرخون فيه: اعترف أنك أرنب"،
لم يعترف أحد من القضاة أنه أرنب، بل فيهم من وصل إلى حافة الموت في إضراب جوع لأجل الشرف والكرامة، لكن أين الصحافة وأين أنا؟ أين الرأي العام؟ أين السياسيون؟ على أي أساس تم إعداد قائمة المحنة؟ هل ثمة مسؤولية جزائية أو مدنية في هذا الاتهام الجائر؟ من يتحمل المسؤولية فيما حدث؟ لا تريدون الجواب؟ أوكي، سوف تمرون من نفس الطريق التي رأيت فيها أحد كبار قادة الأمن في زمن بن علي، يحمل "دليل البول" الناتن ملوثا بالدم في أحد أروقة مستشفى الرابطة في العاشرة ليلا، ويبكي، ليس بسبب الألم، بل بسبب ما آل إليه أمره من الإهمال حتى أصبح يعرض ألمه على المارة،
تذكرت عندما أمر بمحاصرة قرية كاملة وضربها بالغاز ورمي مؤدبها في السجن لأنهم رفضوا دفن أحد أبنائهم الطلبة دون صلاة جنازة، علمت أنه دفن في قبر مجهول في الجلاز، لم يحضر دفنه سوى موظفو البلدية ولم يقرأوا على روحه القذرة حتى الفاتحة، أخذ معه ملفاته الكثيرة إلى الأعلى، أعلى من القضاء التونسي حيث لا حاكم تحقيق ولا إنابة عدلية ولا سيارات رباعية الدفع والا اقتحام البيوت في الرابعة فجرا من السطح: القضاء الأزلي النهائي وعذاب إلى الأبد، حقير من يظلم الناس وأحقر منه من يصر على الحقارة، وأولهم المحسوبون على مهنة الصحافة من القاوقجية،