استمعت بكل اهتمام وتركيز إلى تسجيل حوار الإعلامي عامر عياد مع الناشط السياسي الحبيب بوعجيلة على قناة الزيتونة يوم السبت 6 أوت، وذلك على ثلاث مرات متتابعة نظرا لطول هذا الحوار(ساعة وخمسة وثلاثون دقيقة). وقد احتوت مداخلات الصديق القيادي في "مواطنون ضد الانقلاب" الحبيب بوعجيلة على نقاط إيجابية عديدة:
- فهنالك أولا استيعاب جيد ودقيق لما حصل منذ 25 جويلية 2021 وقبلها (منذ أواخر 2019، وقبل ذلك أيضا).
- وهنالك عودة متكررة للتاريخ القريب لاستخلاص العبر والمساعدة على فهم الحاضر، وذلك بفضل ما يمتلكه ضيف الحلقة الحبيب بوعجيلة من ثقافة سياسية جيدة وتكوين فكري متين.
- هنالك حرص متواصل على إضفاء الموضوعية والدقة في التحليل مع تجنب الشتم والوصم. وهذه نقطة قوة بناءة بارزة لدى ضيف عامر عياد.
- هنالك عودة متكررة للعقل والعقلنة:
* تساؤله هل أن التاريخ بلا عقل حتى يعود بنا إلى ما قبل الحرية والديمقراطية والثورة؟
* كلامه عن عقل الدولة.
وهنا يمكن توجيه ملاحظتين:
الأولى: التقدم وعدم حصول انتكاسة ليس حتمية. يمكن أن يحصل تدارك لاحق لكن قد تطول مدة الانحطاط والانقلاب. ومن هنا يأتي واجب الاستمرار في المقاومة وتشكيل حالة وعي عام باستغلال الظروف الحافة والوقائع الحاصلة.
الثانية: عقل الدولة قد يُخترق من المخابرات ومن فاعلين آخرين في الداخل.
المثال الحي على الملاحظتين: الحالة المصرية (وحالات أخرى في التاريخ القديم والمعاصر).
ينتهي بوعجيلة في آخر الحوار إلى اقتراح بناء سردية خاصة للجناح السياسي من جبهة الخلاص و"مقاومون ضد الانقلاب".
ولدي هنا تعليق صغير على مسألة "التأريخ الحي والفوري" لظاهرة مقاومة الانقلاب. في الحديث عن هذه الظاهرة كانت الإحداثية الرئيسية هي مواطنون ضد الانقلاب، بينما نجد أن الذين ناصروهم واعتبروا أنفسهم من بينهم من المثقفين والنخب والجامعيين هم في الحقيقة أول من عبر بشكل جماعي منظم عن موقفهم المناهض للانقلاب(عريضة رفض الانقلاب التي حصدت سبعة آلاف ممض عليها في برهة كان الجميع تقريبا في حالة بهتة وحيرة بعد صدور ردود الأفعال الفردية والحزبية الأولى) وشرعوا في تشكيل مجموعات تواصل وتنسيق افتراضي للموقف من الانقلاب (وأمضوا بعد ذلك على سلسلة من العرائض) ولكنهم آثروا وحدة الصف وتجنب تشتيت الجهود والطاقات فدعموا مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب" وشكلوا بعض جمهورها الميداني وجندوا أقلامهم لترسيخ منجزها السياسي وتصويبه ودفعه أكثر إلى الأمام..
- خلال حديث بوعجيلة عن "التحول" من "مواطنون ضد الانقلاب" إلى جبهة الخلاص، تم القفز على مرحلة "المبادرة السياسية" (مواطنون ضد الانقلاب وأحزاب وقوى مدنية مع بقائها مفتوحة) التي كانت ذات سقف أعلى من سقف جبهة الخلاص قبل تقييمها للاستفتاء على دسترة الانقلاب.
- أيضا لم يطرح المحاور سؤالا عن موقف اتحاد الشغل ولم يذكره الحبيب بوعجيلة بتاتا، وهذا يشي بوجود اتفاق بينهما على عدم التعرض لهذه المسألة. ربما للحفاظ على إمكانية تطبيع العلاقة بين الجبهة والاتحاد أو بين مشروع التشكيل السياسي الجديد المنتظر والاتحاد.
- المشكلة العائق الكبير في صفوف الجبهة هي النهضة وهذه المشكلة قد يكون حلها بقيام النهضة بنقد ذاتي علني على تجربتها في الحكم خلال العشرية الماضية يتضمن عنصرين كبيرين:
* الاعتراف بالأخطاء المرتكبة والاعتذار عنها
*تفسير بقية الاجتهادات السياسية والكشف عن حقائق مساهِمَة في تجلية عدد من المسائل الغامضة تبرز مسؤولية بقية الأطراف في الفشل الذي مني به جزئيا الانتقال الديمقراطي الأول.
نصل الان إلى السردية الجديدة التي قال بوعجيلة أنه على القوى المناهضة للانقلاب الشروع في بنائها أو نسجها(حكايتنا للناس[لم يقصّها علينا بوعجيلة، بل اكتفى بالدعوة إلى تأليفها جماعيا]).
-أرى شخصيا أن تبنى هذه السردية بطريقة جدلية مبسطة: نحن ما زلنا نؤمن بالثورة وبالديمقراطية لأن وعودهما ما زالت قابلة للتحقيق ولا يمكن تحقيقها إلا بالديمقراطية لا بالتفرد بالسلطة، لكننا نتخذ موقفا نقديا بناء من مجرى الانتقال الديمقراطي الأول الذي ارتُكبت فيه عدة أخطاء كبيرة حادت به عن مساره وعطلت تحقيق أهم أهدافه: دولة ديمقراطية قوية بالقانون وعادلة لا تظلم أحدا وعادلة في تمكين مواطنيها من الإسهام في خلق الثروة وعادلة في توزيع ثمرات التنمية.
* أصل الآن(مقترحاتي الشخصية) إلى مسألة التحول من مجرد المناهضة والمقاومة إلى تقديم البديل.
ثمة مؤشرات داخلية (فشل الاستفتاء وفشل المنقلب في تنفيذ وعوده وكل الأخطاء الكارثية التي ارتكبها على مسمع ومرأى من الجميع) وخارجية(موقف المجتمع الدولي من نتائج الاستفتاء والانحراف بعيدا عن الديمقراطية) تشجع على بناء الذراع السياسي لمواطنون ضد الانقلاب (من حق هذه المجموعة مواصلة التفكير بجانب الجبهة وضمنها مرة من بعد مرة إلى حين اتضاح البديل): هذا الذراع السياسي يمكن أن نسميه" مواطنون مع انتقال ديمقراطي جديد".
ويمكن أن يعد لائحة سياسية يدعو جبهة الخلاص لتبنيها. وتتضمن الدعوة إلى حوار وطني تحت سقف انتقال ديمقراطي ثان يتبنى:
- إلغاء كل التدابير والمراسيم والقرارات المنبنية على 25 جويلية2021 و25 جويلية 2022
-إجراء تعديلات على دستور 27 جانفي 2014
- إعداد قانون انتخابي جديد ينهي حالة التذرر في البرلمان ويضمن له عملا عاديا ومتواصلا
- إحداث محكمة دستورية بترتيبات جديدة يقع الاتفاق عليها، وذلك بعد
- تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة.
- إحداث مجلس اقتصادي واجتماعي أعلى يتبنى استحقاقات الثورة الاجتماعية ويضع خطة اقتصادية فعالة لتحقيقها
- إمضاء سلم اجتماعي لمدة عشر سنوات.
كما يمكن ل"مواطنون مع انتقال ديمقراطي جديد" أو "المؤتمر من أجل انتقال ديمقراطي جديد" أن يصوغ لائحة فكرية يضمنها رؤيته الحضارية الاستراتيجية وكذلك لائحة اقتصادية واجتماعية، ورابعة ثقافية وتربوية داعيا كل النخب الذين وقفوا مع "مواطنون ضد الانقلاب" ميدانيا وبالفكر والقلم إلى المشاركة في هذا العمل.