أنا كان لي شرف دخول مهنة الصحافة زمن مجد رئيس التحرير، صانع المحتوى وحارس قيم المهنة، في ملاحق الاتفاقيات المشتركة في قانون الشغل، يسخر منك الناس إذا أصبحت رئيس تحرير قبل سبعة عشر عاما من الممارسة اليومية المضنية للأجناس الصناعية في مهنة الصحافة، أنا يمكن أن أتذكر رؤساء التحرير الذين اشتغلت تحت إشرافهم بأنهم أولئك الذين كنت أخجل من أن أقدم إلى أحدهم مقال "توروير" من الهذيان، يقول لي: "أيا عاد؟ يزي؟ شنية هذا؟ احشم؟" لأن التوروير أيضا له قواعد مهنية مقنعة أيضا،
رئيس التحرير كان شخصا له كاريزما متأتية من كفاءته وتجاربه الطويلة ومعرفته الدقيقة بالبلاد والعباد والقوانين وقدرته على إيجاد الحلول المهنية وقدرته على الاستجابة للأزمات التي يعيشها الناس وتأطير منظوريه من الصحافيين والحفاظ على التقاليد الصناعية في المؤسسة وعلى مصداقيتها، لذلك كان هو الوحيد الذي يقدر على الوقوف في وجه مالك المؤسسة الإعلامية والدخلاء والسياسيين ومحاولاتهم لتوظيفها بليّ عنق المهنة أو القانون، لذلك اخترعت المجتمعات الفصل الموجع بين الإدارة والتحرير،
اليوم، صاحب المؤسسة الصحفية هو رئيس التحرير الوحيد الذي يحتكر الحقيقة والاختصاص المهني، هو صانع المحتوى وهو العارف بما يجب أن تكون عليه المعالجة الصحفية وهو الذي يختار المنتج والمنشط والضيوف وبما يجب أن يقال، أحد هؤلاء قال لي آمرا في بعض أعوام تيهي في 2016: "نعملوا حاجة على التحوير الوزاري"، قلت (نتبهنس، استفزاز): شنوه الحاجة؟ نعملوها بالشراكة مع بعضنا وإلا كل واحد وحده من وجهة نظره المهنية؟ ثم كيفاش تحب نعلموها؟ قال: "شنوه توه عاد؟ اعملي حاجة على التحوير الوزاري الباهي هذا"، قلت له: الحاجة الباهية هذه تحبها كروية الشكل؟ مكعبرة؟ مربعة أو مثلثة؟ تؤكل أم يلعب بها؟
الرجل لا يعرف الأجناس الصحفية مثل التحليل أو مقال الرأي أو التعليق، يختزل الصحافة في كيف يرى هو مصالحه في هذا العالم، والصحافة وسيلة والصحفيون أيا كانت خبرتهم الصناعية مجرد أدوات تنفيذ لعمل "حاجة" حسب تعليماته، كان ذلك آخر عهدي به وهو يقول: "حتى أنا غالط جايبك أنت، توه نكتبها وحدي"، وقد قلت لمن حاول التوسط بيننا أن عليه أن لا يصدر لي أوامر أبدا بخصوص المحتوى، فهي مهنتي وليست مهنته، فرفض، من وقتها، بدأ عالم المهنة يضيق، الحقيقة أن إرسال القوادين والمخبرين في الصحافة بدأ قبل ذلك بكثير، في 1992 من أجل أن يفوز بالملك من كان فيه،
الغريب أنه لم ينشر تلك "الحاجة" وقتها، لعجزه عن الكتابة وخوفه من أن يكتشف الناس أنه لا يحسن كتابة جملة مفيدة واحدة وأنه بعيد جدا عن موهبة synthèse التي تحتاجها الصحافة، انتدب مستكتبا سخيفا كان يدفع له عشرة دنانير عن مقالات يكتبها له في المقهى بين الحين والآخر وآخرين فشلوا في مهنهم الأصلية، لكن بينه وبين الوصول إلى حقيقة صناعة الصحافة سبعة عشر عاما بالحد الأدنى من القانون، إذا كانت نواياه سليمة، وهي ليست كذلك،
في الأثناء، تأكدت الهجمة الوحشية على مهنة الصحافة حيث على الصحفيين أن يعملوا "حاجة" خارج التعريف الصناعي في مهنة الصحافة، بإمكان أي صحفي محترف من تونس أن يمارس مهنته في الهند أو كوستاريكا بقطع النظر عن اللغة: هذا الموضوع يستحق حوارا من 600 كلمة، وهذا عملا استقصائيا يتطلب نصف شهر من العمل والآخر لا يمكن معالجته إلا في قصة خبرية، وهذا لا يبستحق أكثر من برقية من 150 كلمة،
وفي ظل هجمة الثيران التي فشلت في القفز على الأسلاك الشائكة لتصبح محللين وكرانكة، توشك مهنة الصحافة في تونس على الانقراض، فما بالك بخطة رئيس تحرير، حيث عندنا مدربون في مختلف أجناس الصحافة أكثر من عدد الصحفيين المهنيين راغم أنهم لم تطأ أقدامهم معهد الصحافة ولا يفرقون بين الخبر والتعليق، لأنهم يريدون "حاجة" في الصحافة، أيا كان شكلها، في المقابل، لا أعلم إن كان لدينا بعد رؤساء تحرير، قادرون على حماية صناعة الصحافة، باعتبارها عملا صناعيا له ضوابط متفق عليها مهنيا، حين تكتب برقية من اليابان، فأنت تكتبها وفق نفس المقاييس الصناعية وأنت في مدغشقر أو الصين، كذلك لكل الأجناس الصناعية من الحوار والريبورتاج والاستقصاء والقصة الخبرية والتعليق والتحليل، لأنها ثمرة الخبرة البشرية فوق الأرض منذ أن ظهرت الصحافة وجعلت تطور نفسها للبقاء من أجل هدف عظيم: القدرة على أعطاء معنى لما يحدث لنا، وليس التفاوض سرا مع أصحاب السلطة بالمقالات الصحفية السخيفة، لأن دور الصحافة منذ أن ظهرت هو أن تقف على يسار السلطة وأن تقول للحاكم ما يريده الشعب، وليس ما يريده الحاكم من الشعب،
ذات يوم في نوفمبر 2001، أتاحت لي الدراسة في فرنسا حضور تربص في جريدة ليبيراسيون اليومية الفرنسية، حضرت عدة اجتماعات لرؤساء التحرير والأقسام مع رئيس تحريرها التاريخي ومؤسسها سارج جولي، الذي كان يمارس مهنته في محراب قداسة مئات الكتب والنشريات والدراسات، حيث لا يأخذ الصحفيون المحترفون أكثر من 20 دقيقة صباحا من وقته للإطاحة بحكومة، اعتمادا فقط على الكفاءة المهنية في كشف فسادها، وليس على تعليمات بأن نعملوا حاجة على الحكومة، نكعبروها لها؟