ملفّ التهريب أو الكنترا لا يختلف عن ملفّ الهجرة غير النظامية أو الحرقة ... كلاهما يتعلّق في الأصل بنشاط هو من الحقوق الإنسانية الأساسيّة : الحقّ في التنقّل والسّفر والحقّ في طلب الرزق والتّجارة إحدى سبل ذلك ... لكنّ الدّول حدّت هذه الحقوق وجعلت لها ضوابط ومعايير وقوانين تنظمها …
التهريب أو الكنترا هو نشاط تجاري لكن لا يتوفّر فيه جملة من الشروط التي من أهمّها عدم الخضوع لرقابة الدّولة والنّظام الجبائيّ والضريبي وقانون المنافسة والتصريح برقم المعاملات وشفافيتها مع إمكانية انفتاحه على الممنوعات ... هو اقتصاد كامل الأركان لكنه خارج المنظومة القانونية لذلك سمّي بالاقتصاد الموازي أو اللاشكلي ...
أنجزت مئات البحوث وعقدت مئات الندوات حول هذا النشاط الاقتصادي لضبط أشكال مواجهته لما يشكّله من خطر على اقتصاديات البلد ومقدراته وتتفاوت طرق المعالجة من الأمنية التقليدية إلى محاولة دمجه في الاقتصاد الشكلي ... في كلّ الحالات فكرة القضاء عليه بالوسائل الأمنية والفضائيّة خيالية بل عبثية خاصة في ظلّ ضعف مؤشرات النموّ والتنمية وفرص الاستثمار وسوق العمل وفرص التشغيل المنظم ...
المداهمات الهوليودية والرّصاص الحيّ ليس حلا للحدّ من هذا النّشاط حتى لو وقع عسكرة كامل البلد من أقصاه إلى أدناه ... أذكر جيدا المداهمات التي كان ينظّمها أعوان التراتيب البلدية والديوانة بشكل مشهدي على سوق سيدي بو منديل فيحجزون بعض البضائع ويفرغون النهج من الباعة لكن بعد وقت يعود الوضع إلى حاله إما من خلال ضريبة مقنّعة تعطى لصاحب قرار المداهمة " جعالة " أو من خلال قرار إداريّ سياسي بغضّ الطّرف عن هذا النّشاط الذي يضرّ باقتصاد البلد ويسمح بإثراء غير مشروع ولكنّه يمتصّ جزء من البطالة والاحتقان الاجتماعي …
عندما تتخلّى الدّولة عن القيام بواجباتها يخلق المجتمع طرق تلبية حاجاته وينتعش الموازي ولوبياته ولا سبيل للحدّ من هذا النشاط إلّا بتحقيق العدالة الاجتماعية …