انجلترا، باتفاق كل المؤرخين تقريبا هي اول دولة تضع قدما في منظومة "الاقتصاد السلعي المُعمّم" وهي مهد الرأسمالية "كتشكيلة اقتصادية واجتماعية مُعولمة منذ ولادتها". وهذا ما يفسّر الغزارة الفكرية المتعلّقة بالنظام الرأسمالي وأسسه وقواعده وشروط استمراريته منذ ما يزيد عن خمسة قرون.
فكان "بنتهام" الذي نظّر "للفردانية والمنفعية"، و"سميث" لفرضيّتيْ الرفاه" ومقولة "لا يوجد غذاء مجاني" و"ريكاردو" الذي نظّر لضرورة التوسّع لراس المال على قاعدة جغرافية عالمية كشرط لتأجيل الازمة الداخلية للنظام الرأسمالي، و"هيلفرد" الذي اوجز في هندسة "الامبريالية" قبل لينين بحوالي اربعة عقود…
والمُلاحظ انّ الخطوط العريضة لهذه الانتاجات الفكرية مازالت تسود الفكر الاقتصادي الحديث الى يومنا هذا وفي سائر اصقاع العالم من اعتى الجامعات في امريكا الى فصل من طلبة السنة الاولى منسيّ في احدى المقاطعات بالدول المنسية… مرورا بالخطابات الرسمية القائمة على آليات السوق في بلدان فاقدة للأسواق وشروطها، وفي مجتمعات مازالت تسودها النظم القبلية والحال ان النظام الرأسمالي يفرض الحريات الفردية وانعتاقها من القيود ما قبل الرأسمالية، وانّ الفصل بين الناس والفصل بين الحاكم والمحكوم انّما هي "المؤسسة"، والحال ان "المؤسسات" في المجتمعات التائهة تقبع تحت نزوات الحاكم ذي السلطة المفقودة عالميا والمطلقة محليا…
ومن ظاهر المفارقات كذلك ان طقوس المأتم في بريطانيا -الطريفة في شكلها- تبدو ما قبل حداثية، حيث يُراد ابراز الطابع المقدس للحدث في حين ان الرأسمالية لا تسمح بقداسة الاشخاص ولا الدين ولا الوثنية. بل لا وثنية الا "وثنية السلعة" كما استفاض وابدع في تحليلها "كارل ماركس"، ولم ينكرها "كاينز" في حديثه عن "وثنية العُملة". وقد نفهم من ذلك السببَ وراء "دفع مقابل مالي للقيام بالوداع الاخير للملكة".
واعتقد، انّ الترويج الاعلامي اللافت لحدث وفات الملكة انّما هو ليس موجّها للمجتمع البريطاني، حيث الاعلاميون والمحللون والمفسرون لم يتجاوزوا حد الحديث عن "ان الملكة وهبت حياتها للمملكة وللشعب البريطاني"، بدون تجاوز هذا الحد. وكان الترويج موجّه للمجتمعات التائهة ذات التناقضات الهيكلية بين نظمها الاجتماعية ونظمها السياسية…