قلت لصاحبي بعد أن تأكّدت من أنّه استردّ أنفاسه:
- لم تروي لي ما حدث لمكتبتك!
- سأروي لك ذلك الآن:
"تدافعت الإشاعات يومها, كسيل جرار لا يعبأ بحاجز, في أجواء ربيع وصيف 1987 الساخنة جدا... والمشحونة بالقمع, والاعتقالات, والمداهمات الليلية - وغير الليلية- لبيوت من تُشتمّ عليهم رائحة الانتماء, من قريب أو من بعيد, إلى التيار الإسلامي. وبات مجرد شك, أو وشاية من جار حاقد, أو من زوجة في خلاف حاد مع زوجها, أو تقرير متزلف من إحدى "لجان اليقظة" - المنتشرة في أزقة وبطاح البلاد كانتشار القطط والكلاب الضالة - قد يلقي بصاحبه في غياهب سجون, الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود.. مُشوَه.
وقُذِف الرعب في أفئدة الناس, وبلغت قلوبهم الحناجر؛ فأفرزوا نوعا من الهستيريا الجماعية: الكل فيها يخشى الكل.. في هذا الخضم لم تنجُ عائلتي من الأجواء السائدة... فلقد انبرى لها من جديد شبح الماضي القريب, وصِرتُ من حيث لا أشعر حاضرا بينهم رغم البحار والسهوب والحدود الفاصلة بيننا... فكان أن قَرّرت والدتي, حماية لي وللعائلة التخلّص, بشكل أو بآخر, من "أداة الجريمة" – الكتب. فجمعتْ, مستعينة في ذلك بإخوتي الأصغر مني سنا, ما كان ينمُّ من قريب أو من بعيد عن توجهاتي الفكرية والسياسية من الكتب, ووزعتها على من قبل, وإن على مضض, من الجيران و الأقارب الذين لم تتخلل ماضيهم شوائب السياسة. بعضهم رفض... وأمسك عن زيارة عائلتي لعدة أشهر. ثم عادت الكتب "المشؤومة" من جديد إلى بيتنا, بعد أن تحولت إلى عبء ثقيل ومحرج... "أنمسكه على هون أم ندسه في التراب..." ما عدى حقيبة واحدة سافرت مع أحد زملاء الجامعة القدامى إلى بعض بوادي البلاد, لا أعرف اليوم مصيرها. و تطوعتْ إحدى قريبات أمّي تقيم بالخارج, ولها منزل في إحدى ضواحي العاصمة, لا تقطنه إلا في الصيف, أثناء عطلتها السنوية, بأن تنقل الكتب عندها, فيكون الجميع بذلك في مأمن.
ولكن ما أن وصلت إلى منزلها حتى تبلورت في ذهنها البسيط, فكرة عبقرية!
كان بحديقتها برميل ضخم لا يصلح لشيء, وفجأة وجدت له وظيفة, أخرجته بها من عالم النفايات لتلقي به في عمق التاريخ... جمعت في هذا البرميل بعض الأغصان الميتة, وخرق بالية, وجرائد ولدت ميتة, وسكبت عليها قليلا من البترول... وما أن علت ألسنة النار حتى أخذت تلقي الكتاب تلو الآخر, وكلما خفّ اللهيب, سكبت من جديد بعض البترول, وهكذا إلى آخر مجلد... التهمت النيران كل كتبي, لم تفرّق بين شعر وتاريخ, بين أدب وسياسة, بين دين وفلسفة... كانت تلتهم الكتب بنهم ولسان حالها يقول: " هل من مزيد…"؟
حين رجعت قريبة أمي إلى بيتنا, كان وجهها مسودّا وعينيها غائرتان:
- C’est fini ... لقد أرحتكم من المشكلة!
بكت أمي, ولم أٌفاتح في الأمر إلا بعد سنة, عندما زرت تونس في صائفة 1988.
في الأثناء حدث ما حدث من "انقلاب أبيض", ومن "ثورة ياسمين", ومن "تغيير مبارك", ومن "عهد جديد"... ما فتىء يتجدد…
(يتبع)