تحكي الأسطورة الصينية أن شابا فقيرا كان يعيش مع أمّه. وفي يوم من الأيام زارهما شيخ هرم يطلب المساعدة. ولمّا كانت العائلة لا تملك. غير قوت شخص واحد، تنازل كل من الأم والابن عما يملكان للشيخ. أكل الشيخ، ثمّ طلب من الشّاب اصطحابه لكوخ له، وقد كانت ابنته في انتظاره. لمكافأة الشاب أمر الشيخ ابنته أن تعطي قرطيها لصاحبه. فإذا هما مفتاحان، الأول ذهبي والثاني فضي. نصح الشيخ الشاب بأن يقصد الجبل، ويبحث فيه عن باب مغارة يفتحها بالمفتاح الذهبي عند الدخول إليها وبالمفتاح الفضي ساعة الخروج منها. أكّد الشيخ أن في المغارة كنوزا لا تنتهي.
وجد الشاب الكنوز. ولكنه لم يهرع إلى ما فيها من ذهب وفضّة. لقد اكتفى منها برحى حسب أنها تمكّنه من العمل في طحن الحبوب. ولكن كانت المفاجأة. فحين عاد إلى البيت وأدار الرحى، اكتشف أنها لا تطحن الحبوب، بل تفيض بها. بدأ الشاب يطعم الجائعين. فذاع صيته حتى سمع به الملك، فأمر أحد أعوانه بانتزاع الرحى لفائدة الدولة. ما إن وضع الموظف يده على الآلة حتى تهشمت ولم تعد تنتج شيئا.
أمّا الشاب، فقد عاد إلى المغارة من جديد. اختار هذه المرّة مهراسا حجريا. فإذا هو ينتج أرزّا. عاد الملك، فأرسل أحد جنوده لانتزاع المهراس. ولكن حدث معه ما كان قد حدث مع الرحى.
في المرّة الثالثة، اختار الشاب فأسا. فإذا هي تخرج له سنابل مكتنزة بالحبوب كلّما ضرب بها الأرض. حين علم الملك بالأمر، طلب من زبانيته إحضار الشاب نفسه هذه المرة. سأله عن مصدر هذه الكنوز. حاول الشاب كتم سره. ولكن أمام ما تملكه السلطة من وسائل للإقناع، لم يجد بدّا من الاعتراف. انتزع الملك المفتاح الذهبي وهرع بنفسه إلى الجبل. حين دخل المغارة كاد عقله يطير لكثرة ما أبصر من كنوزها. وبعد أن جمع منها ما استطاع، أراد أن يخرج، فاكتشف أن الباب قد أوصد دونه. ومفتاحه الذهبي لا يصلح لشيء. فقضى نحبه سجينا لا عزاء له في رفقة كنوز لا فائدة ترجى منها.
تختزل هذه القصّة أسباب أزمة تونس. فوهم مغارة الكنوز هو سرديتنا الجماعية منذ 2011 وما قبلها. ومفاده أن البلد غنيّ لا حدود لكنوزه، غير أنه بلد منهوب احتكر البعض مصادر ثروته. ويكفي فتح المغارة كي تعمّ البحبوحة. ألم تكن تلك بالتحديد الرسالة التي تلقّفها الجمهور عند عرض شاشات التلفزيون أكوام الأوراق النقدية المكدّسة في قصر قرطاج بعد هروب زين العابدين بن علي؟ أليس ذاك ما يقصده بالفعل جلّ من يربط بين مكافحة الفساد وتحسن حال البلاد؟ ألم يتهيكل الخطاب العام خلال السنوات الماضية على رحلة وهمية طلبا للربح السهل؟ ألم يشكّل البحث عن الكنوز هاجسا جماعيا لم تسلم منه حتى المقابر؟ ألا يعبّر ذلك عن إيمان راسخ بأن الثروة إنما تكتشف ولا تصنع؟
إن تونس سجينة مع كنوزها الوهمية تماما مثل الملك في الأسطورة. إذا افترضنا وجود تلك الكنوز، فلا فائدة ترجى منها. يسميها البعض ثروات وطنية. فيسأل الجمهور أين البترول؟ وأين الملح؟ كما يطالب البعض بنصيبه من الفوسفات، بل ولا يتورّع كثيرون عن إيقاف الإنتاج باسم «الحقّ المشروع» في التنمية. والمقصود في أكثر الأحوال المطالبة بوظيفة تدرّ أجرا من دون مقابل و دون جهد أو إنتاج.
يلوم الشعب السياسيين لأنهم لم يوفوا بوعودهم، ولكن ألم يحن الوقت ليسأل هذا الشعب نفسه: كيف يمكن لسياسي تونسي أن يطمح لكسب أصوات الناخبين دون أن يدّعي امتلاك مفتاح مغارة الكنوز التي يؤمن بوجودها الجمهور؟ المشكل أن السياسيين، كملك الأسطورة تماما، لم يفكّروا في الحاجة إلى مفتاح الخروج من المغارة بعد الدخول إليها.
إن الأمور تزداد سوءا. وإذا كان الشعب، لا الملك، هو الذي يموت اليوم بجوار كنوز حقيقية لا ينوي العمل من أجل تحويلها إلى ثروة، فإن زعيمه يحيا على أمل كنوز وهمية لا يعلم مكانها. فهو يعد بإرجاع آخر مليم للشعب، إرجاعه من الأشرار الذين نهبوا ثرواته واستباحوا كنوزه. وسبيله إلى تحقيق وعده مصالحة شاملة يتولّى فيها الأكثر فسادا إعمار المناطق الأكثر فقرا. وكأن لسان حاله يدعو الجمهور إلى الانتقال من البحث عن الكنوز الطبيعية والسعي لاقتسامها إلى غزو جيوب الأغنياء بتهمة الفساد. ألم يذهب أحد المفسرين إلى القول بأنه من الجرم أن يكون الفرد غنيّا حين تكون المجموعة فقيرة؟
ذاك بالتحديد ما قام به الملك الساعي وراء الكنوز. لقد حاول افتكاك مصدر ثروة الشاب. فلمّا أدرك أن الدولة حين تضع يدها على مصادر الثورة تتوقّف تلك المصادر عن إنتاجها، انتقل إلى الركض وراء أصل تلك الثروة. وذاك هو المنطق الذي يفسّر العلاقة بين مشروع المصالحة الوطنية والشركات الأهلية في مخيال الرئيس. ربما تخيّل، هو أو بعض المفسرين من أنصاره، أن أموال المصالحة الوطنية ستوفّر التمويل الذي تحتاجه الشركات الأهلية. ولكن تلك نقطة بداية لا غير. الحقيقة أن المقصود هنا هو الاستيلاء على أصل مصادر الثروة، تماما كما استولى الملك على المفتاح الذهبي للولوج إلى مغارة الكنوز. ومن ذلك أراضي الدولة التي يضعها المرسوم المحدث للشركات الأهلية على ذمتها.
لعلّ المقصود من مشروع الشركات الأهلية هو إيجاد وسيلة لتجنّب اللعنة التي تلحق كل دولة مغتصبة للثروات، منتهكة لمنتجيها في القطاع الخاص. أي أن قيسا والقيسيين ليسو إلا أشباه شيوعيين قد انتبهوا أخيرا إلى أن دولنة الاقتصاد لا تؤدي إلى ثراء المجموعة، بل إلى تعميم الفقر. وذاك هو المعنى الوحيد المتاح فعلا لمبدإ المساواة الاقتصادية. و عليه تقتصر المقاربات الجديدة المزعومة على انتزاع مصادر الثورة، ولكن بغير يد الدولة. من سيعوضها؟ الشباب طبعا، وربما بعض الدواب!
لقد اكتشف ملك أسطورتنا الصينية أن الانتقال من السعي لانتزاع وسائل الثروة إلى العمل على افتكاك أصلها لا يسرّع إلا في تقريب الأجل المحتوم والفشل المضمون. وهو ما ستكتشفه تونس بالتأكيد، وسيكتشفه أبناؤها من الباحثين عن الكنوز. ولئن كانت الأسطورة تحكي قصّة موت فرد، فإنها تذكّر بأن الكنوز لا تصير ثروة إلا بالعمل. ومن ثمة زهد بطل القصّة في الذهب والفضة، وتفضيله لآلات يأمل أن تجعله يكسب رزقه بعرق جبينه. وهو المثال الذي يفترض أن يتّبع.
يمكن تقسيم الأفراد والجماعات إلى نمل وصراصير. المشكلة أن تونس تريد أن تعيش رغد حياة النمل شتاء، وذلك فقط باسم حقّ الصرار في الحياة. أي أننا نريد أن نلهو في الصيف وأن ننام في الشتاء. أمّا العمل، فقد تلاشى أثره. بل إنه يختفي تماما لدى رئيس الدولة … يختفي حتى من خطبه العصماء.