نهيب بأصدقائنا أن لا يقرؤوا -إذا قرؤوا- هذا المقال كمزايدة ثورجية تعلمهم صوابا سياسيا، فهذه آخر هموم الكاتب، لكن نهيب بهم أن يكفوا عن إقناعنا أن لقاء سياسيا مع السيد والسيدة عبو يمكن أن ينتج خيرا سياسيا لتونس في السنوات الألف القادمة ولو كتب لجميعنا الخلود. هذا رأي مبني على وقائع عاشها الجميع، وليست توجيها سياسيا لباحث عن موقع أو مغنم.
نسمع أصواتا تدعو إلى لقاء يجمع معارضي الانقلاب تحت يافطة واحدة إسقاط الانقلاب وإعادة قطار الديمقراطية إلى سكته، بالتدقيق لقاء جبهة الخلاص الوطني وفيها حركة النهضة مع الخماسي الذي يحتكر لنفسه صفة الديمقراطية والتقدمية. وذلك بحجة أن الانقلاب طال أكثر مما ينبغي وأن ضرره قد أودى بالبلد، فإذا سقط الانقلاب يكون حديث الاختلاف ممكنا.
أنا ممن يرى في مسار التجميع بهذه الطريقة جرثومة سياسية تتخفى للمستقبل تحت حديث التوافق الوطني. سأحاول ترتيب الأسباب كما أراها.
ما كان للانقلاب أن يحدث لو كان احتمال الاختلاف ممكنا
هذه نقطة انطلاق لبدء نقاش عن المستقبل، فما الذي منع الخماسي أن يكون محاورا جيدا لمكونات جبهة الخلاص باختصار دون تكبير أسماء الطبول؟ لماذا لم يتحاور الخماسي مع النهضة قبل الانقلاب لاجتناب الانقلاب؟ وهل استعادت قوى إسناد الانقلاب رشدها السياسي فجأة لتقبل التحاور مع النهضة كمكون لجبهة الخلاص؟
أنا أرى من خارج جبهة الخلاص أن الخماسي لم يطور موقفه، ودليلي هو أنه لا يزال يسمي جبهة الخلاص بالنهضة الخفية ويتعامل معها بصفتها طاقية إخفاء للنهضة، وهنا تسقط كل احتمالات الثقة التي يمكن منحها للخماسي. من خارج الجبهة ودون خلفية استئصالية، أرى في جبهة الخلاص مكونات كثيرة غير النهضة، نعم ليست بنفس الثقل البشري، ولكنها مكونات قائمة ولها تاريخ مشرف وليست مجرد توابع للنهضة.
لنذكر هنا أنه عند الحديث عن الثقل البشري في الشارع لا يعترف الخماسي بأن حجمه لا يختلف في شيء عن حجم بقية مكونات الجبهة من غير جمهور النهضة. لقد وزن الصندوق الانتخابي مكونات الخماسي في انتخابات 2019 فخرج حزب التكتل مثلا بلا أي نائب في برلمان 2014 و2019، وكذلك الحزب الجمهوري، وكان يجب أن تتسرب مكونات الجبهة الشعبية اليسارية وراء السيد عبو وزوجته ليفوز حزبهما بمقاعد في برلمان 2019 مقابل أن يدخل حرب استئصال ضد النهضة؛ أنجزتها السيدة عبو بامتياز وفازت بترذيل البرلمان وتقاسمت نصرها مع الفاشية. ماذا لدى الخماسي لتسعى إليه جبهة الخلاص الوطني بما فيها مكونها النهضوي؟
واجهة الاستئصال السياسي
الخريطة في تقديري للمرحلة مقسمة بشكل خاطئ بين الأحجام الواقعية والأحجام المصنوعة إعلاميا، والخماسي يريد أن يمنح لنفسه عنوانا سياسيا غير واقعي بحكم أن حجمه على الأرض لا يساوي وزنه في الإعلام، وهذا منذ ما قبل الانقلاب. ولدينا من الأدلة والوقائع الكثير لنثبت أن حجم الخماسي مصنوع في السفارات (السفارة الفرنسية بالتحديد) لا في الشوارع والساحات، والتفاوض مع جبهة الخلاص على أساس هذا الحجم المصطنع هو مغالطة تستهدف الفوز بمكاسب ما بعد الانقلاب لا يمكن نيلها بالانتخابات ولو بعد ألف سنة.
نكتب هذا ونحن لا نرى ترحيب الخماسي بدعوات التحاور مع جبهة الخلاص أو مكوناتها غير النهضوية، بل نقرأ حتى اللحظة سعي جبهة الخلاص للتودد إلى الخماسي دون تلقي رد محترم، وهو تودد يقارب الانبطاح أرضا ليسير الخماسي على ظهور مكونات الجبهة دون أن تتسخ أحذية قادته. إنه تذلل الجبهة وتبغدد الخماسي، ونرجح أنه تذلل بتحريض من النهضة وهو مقدمة لغش سياسي نتهم به الجبهة/ النهضة قبل الخماسي.
تبغدد الخماسي هو عين الاستئصال السياسي الذي نظر إلى النهضة وجمهورها دوما كمركوب سياسي يمكن أن يصوت له دون أن يترشح.. ونظن أن التفاوض الاستئصالي سيكون هنا، فإذا قبلت النهضة أن لا تترشح لأي دور سياسي بعد الانقلاب ومنحت جمهورها للخماسي فإن المعارضة ستتوحد، وهو مقابل يبدو مغريا للخماسي الاستئصالي لكنه سيظل دوما غشا وغدرا للمستقبل السياسي للبلد.
على النهضة أن لا تخدع الشارع بخطاب التوافق
نستشعر دون دليل ملموس أن دعوات الحوار بين جبهة الخلاص وبين الخماسي صادرة عن النهضة وإن بشكل غير مباشر. النهضة واثقة من جمهورها في أي صندوق انتخابي ولو بعد ألف سنة، لكن هذه الثقة تدفعها إلى حسابات حزبية وغير وطنية؛ لأنها تحاول جر الخماسي إلى وضع ما بعد الانقلاب الذي ستكون فيه انتخابات تضمن فيها النهضة وجودا (غير مهم الحجم الرسمي)، لكن في الطريق إلى ذلك سيكون هنا غشا للمسار السياسي المستقبلي لأنه سيمنح حياة سياسية لأدعياء الديمقراطية ومنهم كثير يكوّن الخماسي الحزبي الذي تسعى النهضة إلى مراودته عن نفسه ليدخل في حوار. وهو يعرف حجمه، ولكنه يتلدد لأنه يعرف حاجة النهضة إليه في مرحلة التفاوض، أي لبناء جملة تفاوضية مؤثرة (كل الشارع السياسي ضد الانقلاب).
مدخل الغش ليس في كون الشارع السياسي ضد الانقلاب، ولكن في أن مكونات الشارع السياسي وأهمها الخماسي ليست ديمقراطية، وإنما هي طلاب سلطة على ظهر النهضة وجمهورها. أي بالنتيجة ولو افترضنا أن النهضة يمكن أن تسقط الانقلاب بجمهورها ثم تمنح السلطة لغير الديمقراطيين بمجرد أنهم ادعوا الديمقراطية. هذا يعيدنا إلى نفس الوضع الذي كنا فيه قبل الانقلاب؛ الشعب ينتخب النهضة والنهضة تمنح الحكم لأعداء الديمقراطية، مقابل ماذا؟ لا شيء سوى رفاه قيادة الحزب الحالية التي ترسل رسائل التفاوض إلى مكونات الخماسي الذي لم يخجل من مساندة الانقلاب، ولم يقدم نقده الذاتي للشعب ولا لشركاء السياسة المحتملين في ما بعد الانقلاب.
ما المطلوب إذن في هذه المرحلة؟
الإجابة تقتضي جرأة الإجابة السياسية، ونزعم أن الإجابة الأصدق في هذه المرحلة هي أن لا ننقذ بعنوان مزيف اسمه إنقاذ الديمقراطية؛ أعداء الديمقراطية الذين لم يخجلوا من مساندة الانقلاب، وعندما حانت مرحلة التحالف ضد الانقلاب لم يقدموا أي علامة على حسن نيتهم تجاه المستقبل، وهي علامة بسيطة عنوانها لقد أخطأنا في مساندة الانقلاب. وقد كنت أنتظر هذه الجملة من السيد عبو وزوجته (وهما واحد في جسدين) التي خربت البرلمان فلم أسمعها حتى الآن.. إذا كتبوا هذه الجملة سأكتب بأن باب المستقبل قد فُتح، وسأدفع دعاة التفاوض إلى الطاولة وقد أصب القهوة وأزيدها الهيل.