لماذا لم يُوفّق الخطاب الدّيني إجمالا لا تفصيلا في جذب الخواطر والعقول والتأثير في النفوس والعقل الباطن ومجريات الأحداث لتغيير ما يجب تغييره ؟ إنّ الخطاب الدّيني والمواعظ لم تحقّق أهدافها ولم تغيّر الواقع للأفضل رغم سلامة وحُسن نيّة العديد من رجال الدّين والأئمة الصادقين . فلا بدّ أن هناك قصور في تناول المواضيع والمعالجة ، مع أنّ دين الحق والقيّمة منزّه عن كل نقص وشائبة وخلل وما تشكو منه الأمّة الإسلاميّة من تأخّر في سياقها وسباقها الحضاري.
فلقد إنتصر الأسلاف الصالحين بعقيدتهم وجهادهم وتخلّف الخلف وعلقوا في واقعهم الراهن متقهقرين .
ينشر رجل الدّين عموما والواعظ فكره وأرائه فيبرز إطاره التّفسيري وفهمه وعلمه مضمّن بآيات قرأنيّة صادقة المعاني والدلالة وأحاديث نبويّة طيّبة سليمة في قالب معرفي ذات بُعد توجيهي إرشادي تذكيري تحذيري تبشيري إصلاحي حاملا تعابيره ودلالاته الدينيّة من رحم الموروث الدّيني المتوارث عبر الأجيال ولكن مقتصرا في الطرح في غالب الأمر على الحقّ الإلهي وأداء فروض الطاعة وضرورة الصلاح وعبوديّة العبد لربّه وهذا جيّد ، فلماذا يُهمل غالبا البُعد النّفسي والإنساني وكذلك البُعد الإجتماعي في التناول والمعالجة .
ألقصور في الفهم والإدراك والوعي بشموليّة الفعل البشري بكل أبعاده النفسية- الذهنية- الوجدانية والإجتماعيّة ؟
أم غلبت العادة العبادة فأتخذ الخطاب الدّيني قالبا لا يتزحزح عنه منذ أمد بعيد عهد السلطان الحاكم بأمره ووعّاظ السلاطين ،فكر ديني متكيّف يلائم واقع الحال ولا يغيّره، بل يبرّره. حيث تلامس وتدغدغ المواعظ الدينيّة أسماع الناس ووعيهم حينيّا دون تغيير ملموس لنفوسهم ولواقعهم الضاغط وخاصة على البسطاء والمساكين والبؤساء . فلا شيء تغيّر وتحوّل للأفضل.
إنّ شموليّة الطرح وحلّ الإشكال تقتضي أن يتكامل الخطاب الدّيني ببعده الدٌيني الصرف وبالبعد النفسي- الإنساني والإجتماعي . فالحياة تحتضن كل الأبعاد بشموليتها لا بأحاديتها وفصل بعضها عن بعض.
البُعد النّفسي والإجتماعي يترادافان وينصهران ليستقيم الفرد أو ينحرف مستقلا عن الدّين وشريعته وحقيقته ، فما يأتيه الإنسان في علاقاته وتواصله ودنياه تفقده وهج المواعظ ورسالة الواعظين ، فسطوة الواقع وضغوطاته ذات سطوة وركزا، فترى الكثير من الناس يحتال ويخدع ويمكر ويغشّ في الكيل والميزان وفي البيع وجميع معاملاته الماديّة كأن لا دين له ولا سمع وعظ ولا إرشاد.
مجتمع خليط غير متجانس من أمزجة وآراء وأفكار متشعّبة ومصالح تنعكس فيه مستويات عديدة من أفهام ومفاهيم وعلم ووعي وثقافة وثراء ووفرة وفقر وإحتياج وجمال وفنّ وذوق ورداءة ووضاعة ورقاعة تساهم كلّها في صياغة الفرد وجذب خاطره وتوجيه إهتمامه وإنصرافه وكل شخص وهمّته ودرجة إستجابته ولينحسر الجانب الدّيني ويتقلّص في دائرة الوعظ والإرشاد أمام هذا الكمّ الهائل من التراص المفاهيمي والذوقي والفني والمعرفي والتفاعلي والإنفعالي النفسي الإجتماعي.
لقد غيّب الوعي الدّيني المتوارث المتداول عبر العصور من زمن السلاطين والحاكمين بامرهم الجانب التحرّري لدين الحقّ والملهم للشّعوب المنكوبة المسلوبة لنيل حقوقها والتخلّص من نير ظلم الظالمين وإحقاق الحقّ وإبطال الباطل ليزيح دين الثورة إلى زاوية الإنغلاق والسّكون وليطمر الجانب النّفسي- الإنساني والإجتماعي الدّافع للحركة والتغيير .
ولقد كانت دعوة الأنبياء والرّسل دعوة صادقة تحارب الظلم والباطل ثورة ضد كل مظاهر الإستعباد والقهر والضيم الإجتماعي . إنّها أمّة تتجمّل بالوحي وتقول به وتتدثّر في غالب الأحيان بقالب ديني مغلّف بتفاسير وأفكار يحنّط كيانها ويُلغي إبداعها ،حجب سالبة للمعاني وللحقائق. أمّة في وضع التّشغيل السيئ والأداء الردئ فلقد غابت المعاني وسادت المباني وإرتقت المصالح والنوزاع والمنافع الذاتيّة وإضمحلت المبادئ والقيّم السّليمة فغابت شمس الحقّ والعدل مع زوال البركة والحياء.
فاللّهم سترا ولطفا ورحمة وغفرانا حتى يأتي أمرك بما تريد وكيفما تريد.
الأكثر توازنا وإتّزانا
من المفروض أن يتولّى المسؤوليّة الأكثر توازنا وإتّزانا نفسيّا وعلميّا وثقافيّا قد إستقرّت معاييره وإتضحت معالمه الوجوديّة والوجدانيّة والفكريّة.
شخص قد إستقرّ هادئا مستقرّا ثابتا حيث يستطيع الحكم وأخذ القرار والقيادة والتّوجيه لثباته وتوازنه .
فالتّوازن إستقرار وثبات وعدم ميل الشّخص وجوبا ونفوره أو جذبه إلى جهة معيّنة مؤثّرة ضاغطة ليختلّ توازنه ويفقد صوابه ويخسر قراره وحريّة تصرّفه بأريحيّة.
التّوازن خبرة وسعة صدر وثقافة وبُعْد أفق وعلُوّ كعب بمعرفة كيف يكون وماذا يفعل. إنّ العُقَد النفسيّة المطمورة في أعماق الذّات والكبت والحرمان المنغرزة في الفرد وقلّة الخبرة وضعف الشخصيّة كلّها عوامل مؤثّرة لإختلال توازن الفرد وعدم إستقراره وميله بإستمرار إلى جهة جاذبة تحتضنه وتحتوي سلبياته.
المتوازن الهادئ الطبع والمستقرّ نفسيّا وعقليّا ووجدانيّا يُسْمَعُ منه ويُرْجَى إفادته ، فلا شأن للعباد مع شخص مزاجي إنطباعي إنفعالي كثير التقلّب الذّي يُغيّر مواقفه وآرائه تحت طائلة الضغوطات لتراه غير ثابت مختلّ التّوازن .
وإختلال التّوازن إمّا إنحدارا إلى الأسفل إعتلالا وجذبا إلى القاع أو صعودا إلى أعلى ويبقى ذلك نسبيّا ظرفيّا حسب الظروف.
التّوازن درجة توسّط بين التّفريط والإفراط بين العوز والوفرة وهي منطقة الإعتدال وهي محبّذة ومجديّة للحكم وإصدار قرار والتصرّف بحكمة.
السّعي للتّوازن والثبات على صالح الاعمال نعمة وخلاف ذلك إرهاق وشقاء النّفس وتذبذبها .