يقسّم أهل البلاغة التعبير اللفظي لثلاث: إمّا مساواة وهي تأدية المعنى لعبارة مساوية له، وإمّا إيجاز وهو اقتصاد اللفظ في تبليغ المعنى ومضادّه الاختصار المخلّ، وإما الإطناب وهو تكثيف للفظ لتوكيد المعنى ومضاده الإسهاب المملّ ويزيد أهل العلم فيه تفصيلًا بأن التطويل هو زيادة في الكلام غير متعيّنة والحشو زيادة متعيّنة، وهما معيبان في البلاغة.
وقيل إن لغة العرب هي لغة إيجاز وذلك في ثقافة عربية مبناها المنقول الشفوي لتيسير الحفظ، ومما قيل في الإيجاز عن عمر رضي الله عنه "ما رأيت بليغاً قط إلا وله في القول إيجاز وفي المعاني إطالة".
قيس سعيّد، الذي يأخذ من عمر نموذجًا، لم يكن فقط غير وفيّ لعدله، بل كذا في قوله عن الإيجاز. جرت العادة أن تدوم الكلمة الافتتاحية في القمة العربية، التي يعلن فيها الرئيس السابق للقمة تسليم رئاستها للرئيس الحالي، بضع دقائق، بيد أن الرئيس قيس سعيّد كان وفيًا لعادته: الإسهاب والتطويل والحشو لتدوم كلمته ما يزيد عن 35 دقيقة، ما جعلها محلّ تندّر في مواقع التواصل الاجتماعي خاصة بنبرة إلقاء يغلب عليها التكلّف الاستعراضي.
المفارقة أنه بقدر ما تميّز الرئيس سعيّد، في البداية، عن بقية الفاعلين في الحقل السياسي باستعماله اللغة العربية الفصحى دون الدارجة فيما اُعتبر تجديدًا محمودًا في الساحة الخطابية، دونًا عن استشهاداته الدائمة بالموروث العربي التقليدي من القصص والأمثال، فهو تبيّن بذاته تباعًا أيضًا السفير الفاشل للغة العربية بلاغة وإلقاءً.
حينما كان الجمهور العام في حالة إبهار مما ظهر من فصاحة لسعيّد في هذا المضمار، استشعر المتخصّصون أن الرّجل يسيء للغة العربية. تذكرني، في هذا الموضع، نصيحة وجهها المدقق اللغوي عبد السلام بن عامر، صاحب عدد من المؤلفات منها "الواضح في قواعد اللغة العربية" و"المنجد في التحليل النحوي" لسعيّد باستخدام اللهجة العاميّة بدل اللغة العربية الفصحى وذلك لتعدّد الأخطاء الفاحشة والمكرّرة في خطابات الرئيس.
ربّما الأمر الخطابي الذي وجهه سعيّد لحاجبه لتبليغ رسالته لرئيس الحكومة الأسبق هشام المشيشي إثر أزمة التحوير الوزاري، تعكس اختزالًا حالة من المبالغة تصل لدرجة التقمّص لدور أمير في الدولة العباسية، كما يظهر في مسلسل سوري في بداية الألفية. توجه سعيّد وقتها لحاجبه أمرًا: "سلّم هذا الكتاب الساعة إلى صاحب البريد ليسلّمه بدوره إلى المُرسل إليه ولا يعود إلينا إلى القصر الرئاسي إلا بعد ما يفيد معه التسلّم إثر التسليم".
لم يكن ليكتمل هذا الاستعراض إلا بكتابة الرسالة حبرًا بالخط المغربي المبسوط. ليس في استعادة التراث العربي في الأدوات التواصلية الحديثة أمرًا معيبًا، بل يُحسب لسعيّد بالخصوص إحياءه لسنّة الكتابة بالخطوط العربية في المراسلات الرسمية لرئاسة الدولة، خاصة تلك ذات الصبغة الخصوصية، بيد أن المشكل أن سعيّد وظّف رسالته المحبّرة وأمره لحاجبه في سياق احتدام الصراع وقتها مع رئاسة الحكومة لا أكثر، خاصة وأن رسالته وقتها تضمنت تأويلًا متعسّفًا للدستور لعدم تمرير التحوير الوزاري. بعد 25 جويلية، ظهر سعيّد غير متحمّس لاستعمال الحبر في مكاتيبه ولا لإلقاء الأوامر لحجًابه ولا لنشر رسائله بالخط المغربي.
تمثل خطابات سعيّد لزائريه، وهم أساسًا رئيسة الحكومة والوزراء، أيضًا مادة ثريّة تكشف عن هواية في الإطناب والتكرار المملّ مع استعمال غريب اللفظ دون موجب، لدرجة تحوّلت هذه الخطابات لمادة للتندّر، وربما ذلك ما جعل رئاسة الجمهورية تعمد، طيلة الأشهر الأخيرة، الاكتفاء بنشر مقطع فيديو لا يتجاوز الدقيقة الواحدة دون نقل للـ"المونولوغ الرئاسي" كما كان سابقًا.
وقد كشفت كلمات سعيّد مع وزرائه، خاصة بوجهه العبوس غالبًا، عن محدودية تعاطيه مع الملفات السياسية أو الاقتصادية سواء على مستوى المعطى أو على مستوى الحلول المستوجبة. هي حالة من التوجيهات المعمّمة والرسائل المكرّرة: نحن أمام حالة نسف لضوابط الخطاب الاتصالي المؤسسي القائم على الدقة والإيجاز.
وأما البلاغات الرئاسية فهي لوحدها عاكسة بدورها لأزمة جدية في الخطاب الرئاسي: أسلوب ركيك عبر جمل طويلة مغرقة في التكلف اللفظي. وهو أسلوب يكشف هشاشة أو تهافت المضمون بذاته، ومن ذلك اختزال الرئيس لأزمة نقص المواد الأساسية في الاحتكار، إلى درجة باتت التعليقات في صفحة الرئاسة تستغرب عدم حديث الرئيس عن الاحتكار إن استقبل وزيرًا ما.
وحقيقة لا يُستغرب أن الرئيس سعيّد هو بنفسه من يتولّى صياغة البلاغات الرئاسية للتطابق الشديد بين خطاباته الشفوية والمكتوب، وخاصة الإصرار الدائم على تكرار عبارات من قبيل "الصعود الشاهق غير المسبوق في التاريخ" و"اختصار المسافة في الزمن" وتقديم حلول لـ"الإنسانية جمعاء". إذ لا يُتوقع أن محترفًا في مادة الاتصال المؤسسي، وخاصة في رئاسة الجمهورية، ينصح بتكرار هذه العبارات السمجة بشكل مبالغ فيه.
في الخلاصة، لا يمكن فهم حشو سعيّد في خطاباته وركاكة أسلوب بلاغات الرئاسة إلا ضمن فهم الخطاب الشعبوي برمّته. لا يوجد رئيس شعبوي يوجز في القول، بل على العكس، تبيّن لنا التجارب الشعبوية الحديثة أنها منفلتة عن ضوابط الخطاب المؤسس، وهي التي ارتبطت بشخصيات توغل في الإنشائية والثرثرة لإثارة الحماس العاطفي لـ"الشعب" في مواجهة "الخونة".
خطاب الكراهية، بوصفه عنصرًا أساسيًا في الخطاب الشعبوي، هو خطاب لا يوجز: بل خطاب يطنب في توجيه الاتهامات ويطوّل في توصيف "أعداء الوطن". بالنهاية، قيس سعيّد ليس سفيرًا حسنًا للغة العربية الفصحى، فهو يسيء إليها، كما أساء للقانون وللعدل الذي يدّعي احترامهما وهو الذي، يثبت يومًا بعد يوم، أنه متمرّد عليهما.