ولاة صفاقس وبن عروس وتونس وبنزرت هم نموذج الصف الأول لرجال سعيّد، وما خفي أعظم في البرلمان والمعتمديات والشركات الأهلية إلخ.. هذا الصنف، المرتبط بتنسيقيات الرئيس، هو عضد تأسيس الجمهورية الجديدة الشاهقة مع رجال الإدارة المأمورين، التبّع مع كل سلطة، والمشكل أن سعيّد لم يجد من هذا الصنف إلا مديرة عامة في وزارة غير سيادية لرئاسة الحكومة تثبت كل يوم فشلها في إدارة الملفات الرئيسية استنجدت بوزراء إداريين جلهم غير قادرين على تقديم تقدير استراتيجي لملفات وزارتهم.
في عهد بورقيبة وبن علي وفي العشرية غير السوداء (وغير الوردية أيضا)، كان يوجد خط ناظم في رجال الدولة التنفيذية (في المستوى المركزي والجهوي بالخصوص)، نخبة دولة الاستقلال: المدرسة الوطنية للإدارة أو كليات الهندسة والمالية والقانون، دورات تكوينية في الخارج، تفاوت في التقدير السياسي لكن في العمق فكر دولتي محض مرتبط بتاريخ التنظيم السياسي والإداري للدولة منذ حتى ما قبل الاستعمار.. حصلت اختراقات لنموذج "رجل الدولة" بطبيعة التحول في إدارة السلطة منذ الثورة، لكن النموذج ظل حاليا، بنوعية التعيينات خاصة في المستوى الجهوي،
لا أستذكر إلا السنوات الأولى للقذافي بعد حملة تطهير السنوسية في الإدارة وتعويضهم برجال من خارج فضاء الدولة، بل معادين لفكرة الدولة بمفهومها الحديث، مع خطاب يؤسس للجديد، القذافي طيلة 40 عاما ظل يتحدث عن الفكر الجماهيري الجديد للعالم.. من المبالغة تشبيه الوضع الحالي بالفترة القذافية الأولى، لكن من الإنكار للواقع هو تجاوز تشابه المؤشرات بين تلك الفترة في ليبيا وما تعيشه تونس اليوم.
مازالت أؤمن أنه يوجد عقل سياسي بارد عميق داخل جهاز الدولة، ومراجعتنا للعشرية الأخيرة فقط يثبت أن هذا العقل هو الذي ينتصر لكن كل مرة في شكل وإخراج.. أعتقد أن حالة العبث الحاصلة اليوم، التي باتت كاريكاتورية (آخرها مهازل الرائد الرسمي)، لازال لم يستوعبها بعد العقل السياسي للدولة، والنخبة الإدارية والسياسية والثقافية للبلاد نفسها غير قادرة بعد على الاستيعاب لذلك تبدو المقاومة بيّنة رغم تفاوت حدتها أخذا بتناقضات هذه النخبة نفسها.. عبث قيس سعيّد هو اختبار جماعي لنا على قدرتنا على الحفاظ على مفهوم الدولة.