هل أن العودة إلى المهد اعتراف بارتداد التاريخ أو هو انتصار تيه الإنسان؟ سؤال جوهري في الحقيقة في علاقته بإشكال عولمة الحداثة الديمقراطية، وهو ما يتطلب حفرا دقيقا في تشكله وأبعاده المعقّدة المختلفة. وأن إدراجه في بنية الأوديسة الإغريقية يطرح أكثر تساؤلا حول الوحدة الثقافية-الحضارية المتوسطية لطالما أن الأمبراطورية الإغريقية أسّست ليس فقط لقوة علمية-تجارية-عسكرية وإنما أيضا لبناء جغرافيا جديدة تمتد إلى ما بعد حدود اليونان. وفي هذا العالم المتأرجح بين الواقع والخيال، الذي خلّده إوليس والأساطير، يمكن تحديد دلالات ومعاني تنظيم القمّة الفرنكفونية 18 بجزيرة آكلي سدرة النبق ، كما بارك هذه النبتة بطل الأوديسة الإغريقية، من 13 إلى 22 نوفمبر. وأن الحدث الدوليّ يأتي، كما يراه البعض، في سياق هذا السؤال الهامشيّ، الذي يتبلور من خلال استقلالية فكرية تتوق لواقع فرنكوفوني يتحدى إرهاصات ومستجدات هيمنة اللماس الروماني، الذي نراه يتشكل من جديد بأمر فرنسي-أروبي حاسم وبعلاماته العنصرية ومركزيته الإثنية الغربية.
ورغم التنوع الذي تحتفي به القمة وأبعاده الدلالية المتجلية والمبطنة، فإن ما تنتظره شعوب دول الجنوب، لأهميته المفصلية في تغيير واقعها باسترجاع الثروات المنهوبة، لا يندرج في أشغالها، وأقل ما يمكن قوله هو ليس هاجسا ولا سؤالا بنيويا يستقطب انشغال البعثات الفرنكوفونية والسعي للعمل المركّز عليه. فالمنظمة الفرنكوفونية الدولية بمقاربتها الجيوسياسية الاستراتيجية مازالت تراهن على "المخزون الثقافيّ المحلي وتذوق الأطباق التقليدية واللقاءات العلمية والفنية والمسرحية" التي بالاعتماد على ما عايناه تاريخيا لم تضف ولم تغير واقع الشعوب المستنزفة لا فقط من طرف نخبها الفاسدة التابعة وإنما ارتأت أيضا أن تعمق بهكذا التوجه الضيّق المعالم الهيمنة الاستعمارية المركزية للدولة الأم للفرنكوفونية وتمكينها من مواصلة لعب دورها الاستعماري التقليدي، الذي ماانفكت تؤصّله حتى يكون منهاج تفكير ورؤية وعمل.
وما يخشى في هذا السياق هو هركولHercule ، الذي مازال يحتجز بينيلوب Penelope حبيبة أوليس.. وكأن دول الفرنكوفونية أصبحت إشكال حب وعشق يتنازع عليه البطلين الأسطوريين اللذين لهما وقع بلاغي على العلاقات الفرنكوفونية المتشكلة من ايديولوجية الاستسلام والفراغ.
لكن هل أن أوليس يتمتع بالقدرة الكافية للإطاحة بهركول؟ وهو السؤال الذي لا بد من طرحه على دول الجنوب الفرنكوفونية في علاقتها بدول الشمال التي أسست لهكذا القطب المتحور باستمرار.
فكيف إذا ستتجلى آثار تحوّر أبطال وآلهة اليونان على علاقات الطرفين؟
سيميائيات الّلقاء والهجرة أو جغرافية الأساطير ووهم التاريخ
يبدو أن أوليس وُلد ثانية بدبلن على يد جيمس دجويس وجاب غمار ضباب أروبا قبل أن يحل في أحشاء الليل بجزيرة روبن كريزوي حيث أوديسا هومير Homèreلم تكن فقط إغريقية الأصل، بل هي أيضا سليلة مخيال سلتي-متوسطيّ-كوني. وأي مؤرخ يبحث في تفاصيل الأسطورة وحقيقة ارتقائها إلى براديغم الإنسان المتصارع مع الجذور والتيه، أو كما تطلق عليه الحداثة الإنسان الكونيّ، لا يستطع تحديد آفاق وخطوط وآثار ذلك الإبحار الأسطوريّ والأسباب والذرائع التي دفعت بأوليس أو روبن كريزوي إلى تلك المخاطرة المجهولة العواقب والمصير.
أالغواية الاّمتناهية والنرجسية الارستقراطية-البورجوازية هما اللتين كانتا يتحكمان في مصير ديمقراطية أثينا التي دفعت بأوليس للفرار إلى ربوع مجهولة أرحب من أجل المعرفة والتغذّي على ثقافة جديدة لا صلة بعالمه وتفتيق مخياله السجين أو أن بالأحرى مغادرته لأرضه يرمي للتحرر من سطو الآلهة المركزيّ الغاشم وتبعية تنازع الحب والقدرلمصيره؟ وما القاسم المشترك بين جزيرة روبن كريزوي وجزيرة أوليس من ناحية، وجزيرة اللّوتوفاج من ناحية أخرى؟
لم تعد الحداثة، بأزمة ديمقراطيتها المزمنة، تروج للتبشير بحضارة الاستكبار والاستلاب الثقافي والهيمنة الاقتصاديّة- المالية العنصريّة، بل هوسه يتجلى نبوة جديدة تهدف إلى إرساء نظام امبراطوري يكون الإنسان- المكان محوره. وهل أن جمهورية أثينا في هكذا السياق تختلف عن جمهورية ثورة 1789 البورجوازية الفرنسية وغزوها الإيديولوجيّ؟ وكيف يمكن النبش في آثار أوليس بجزيرة أحلام بلا أحلام؟ وما تأثير روبن كريزوي على جزيرة الهمج بعد محاولة قتله وهروبه على حين غرة إلى المملكة المتحدة في أوج الثورة الصناعية التي شكتلها ماليخوليا الحكم الطبقيّ بأمراضه المستفحلة؟
يبدو أن آثار هذه التساؤلات عميقة في الواقع كما في المخيال. وما الغرب البروموتي،الذي شيد حضارته على قيم الحداثة والديمقراطية التي يعتبرها بنيته الثقافية-الحضارية الطبيعية، إلا صورة حية لديمقراطية أثينا التي ورثها وضاقت ضرعا بأوليس كما كان ذلك أيضا بالنسبة لروبن كروزوي، المتأصل بجذوره التّبشيرية بجزيرة برابرة لا توجد على أي خريطة. غير أن امتدادها وبسط نفوذها على "الشعوب البربرية"، منذ النهضة الأروبية، لم يختلف عما سطره لها الغرب التّوسّعيّ الاستعماريّ، إيمانا منه بأنه الشعب المتفوق، الذي يعتبر نفسه القادر الوحيد الاستثنائيّ على استعبادها بتدمير ثقافاتها وحضاراتها ورموزها لتحويلها بيسر إلى مجتمعات استهلاكية مغلقة على ذواتها، معززا من خلالها سلطته بمشروعية قوّته العسكرية-الصّناعية ونهب ثرواتها على أوسع نطاق بلا إحساس بالذنب ولا محاسبة ، وذلك لضمان أسلوب عيش شعوبه وأجياله المقبلة وديمومة الرفاه الماديّ الصناعيّ الجماعيّ.
إذ تلك هي بداية بلورة فكرة مجتمع كونيّ يكون الفرد أساسه وتطلّعه، كما حلم من خلال تصوره الفيلسوف الألمانيّ أيمنويال كنط بحضارة منسّقة على مستوى كونيّ ينفخ فيها روادها تقاسم أسلوب العيش السعيد المشترك بين أممه الصناعية.
ولكن هل أن "القرية الفرنكوفونية" بجزيرة التنوّع الدينيّ والثقافيّ والتعدّد الإثنيّ سيجذّر أكثر أوليس وروبن كريزوي بتجذّر كونيتهما التبشيرية؟ أو أن الحروب العنصرية التي تقودها فرنسا لا فقط إزاء مواطنيها داخل حدودها، على أساس انتهاك حقوق ممارستهم شعائر دينهم، باسم قانون الانفصال،وإنما أيضا تفاقم الاتهامات الزائفة نفسها داخل الدول العربية والإسلامية التي لا تستطيع توفير قيم العدل والسلام والحرية إلا بتحقيق استرجاع ثرواتها الطّبيعية المنهوبة؟ أو أن بالأحرى القرية الكونية التي تروّج للحداثة بصفة عامة قد أصبحت شعوبا ومللا وقبائل حاقدة ومتناحرة ومنقسمة بعضها ضد البعض من أجل تأليه الانقسام والانفصالية-العنصرية؟ أو أن السبب الآخر المسكوت عنه هو الفوضى الغربية المزمنة التي يديرها الفرد بغوايته الامتناهية، الذي يسعى للانكماش والتقوقع واسترجاع هويتة وهو الأخطر مادام على قاب قوسين من تبني إيديولوجية التعويض العظيم العنصريّ؟
ضبابيةٌ وارتياب غريب يسكنان الحداثة الغربية، وهو ما يطرح تساؤلات جذرية حول مشروعية جعل الفرنكوفونية وعاءا إيديولوجيا يستبطن نفس الأدوات والغايات الاستعمارية لحرمان هكذا الشعوب المنهوبة من النهوض والارتقاء. إذ دغمائية التبعية لم تترك مجالا للشك رغم أن حضارة الأنوار بنيت على الشك لتأصيل العلم والمعرفة.
الفرنكوفونية جزيرة أحلام أو امبراطورية أنوار بلا أنوار؟
حروب أثينا ضد الفرِجيين و الفرس وغيرهم من الشعوب لها وقع معارك إوليس بمسارته من أجل إثبات ألوهيته وتخليد سلطته وسلطة الآلهة، وهي حروب ومعارك لا تختلف عن حروب ومعارك الثورة الصناعية التي لفظت روبن كروزوي خارج دائرة استبدادها الصناعيّ، عن الحروب الفرنكوفونية التي مازالت تسوّق للتفوق والهيمنة الرأسمالية الليبرالية المتوحشة.
الزمان-المكان هنا ليس ارتدادا بإعادة توظيفه بجزيرة تشبه سفينة المعدومين وهم يتصارعون مع أمواج التاريخ المرتطمة. إذ أن الصراع الحقيقي لم يعد صراعا بين السوق الانغلوسكسونية والسوق الفرنكوفونية مادام الأول قد فرض لغته بفرض سوقه الكونيّ،الذي تتغذى عليه حتى اللغة الفرنسية بثقافتها نفسها التي صارت حتى داخل حدودها إشكالا بصراعها مع اللغة الأنغليزية واللهجات المحلية. مما قد يعني أن الثورة التكنولوجية والعلمية والمعرفية والثقافية لم تعد إجمالا تُبدع وتُنجز باللغة الفرنسية وإنما باللغة الأنغلوسكسونية خارج سياساتها بأغلب إنتاجاتها وعمق تأثيراتها على دول الكومنوالث وغيرها من الدول. وهو ما يدل على أن مستعملي اللغة الفرنسية صاروا يتصارعون مع طواحين تشبه طواحين دونكيشوت التي ما فتئت تعصف بالفرنكوفونية كما تشهد على ذلك، وفي بدايتها، دول اختارت مسك زمام مصيرها بأيديها كالبوركينا فاسو ورواندا وتشاد ومالي، وهو ما ينبئ بمواصلة اشتداد المنحى أكثر حتى وإن غيرت فرنسا استراتيجيتها قصد تحصين نفسها وتحصين الفرنكوفونية بحدود جزيرة أسطورية مجتثة من الأحلام وهي تدار بعقل سياسي-لغوي- مركزي فرنسي يوهم مشاركيه بأنه يتقاسم الأدوار والقرارات معه.
في نفس الخضم احتلال الولايات المتحدة الأمريكية من الأوربيين كان يهدف إلى تأسيس إسرائيل جديدة كما أن اليهود المحتلين لفلسطين، بنسبة 10°/° من جملة السكان الغزاة، كان هدفهم تأسيس دولة إسرائيل جديدة. وهو ما يقربنا أكثر من فهم دور الجزيرة في تأسيس الإمبراطورية الفرنكوفونية بالدفاع عن المحلي بتجذير السوق التابعة وسياسة تغيّر المناخ اللذين يُعتبران مطية لتأصيل تعميق الفجوة التكنولوجية والعلمية والمعرفية بين الشمال والجنوب. وأن الحقيقة هنا تبدو أعمق مما يمكن تصوره لطالما أن القمّة تنظّم بين القمّة العربية لرؤساء الدول العربية وقمّة شرم الشيخ الدولية لتغيّرالمناخ، قمتان كلاهما تراهنان في الحقيقة على ضمان الاستقرارالسياسيّ بالنسبة للأولى وإنقاذ كوكب الأرض من التلوّث بالنسبة للثّانية رغم أن الجنوب ليس مسؤولا عن الخراب الذي ارتكبه الغرب في حقه. كما أن الحدثين لا يخلوان من إشارات جيوسياسية استراتيجية تتنزل في اهتمامات القمة الفرنكوفونية بجزيرة جربة، حيث العبور والحركة البشرية كانا حيويين منذ التاريخ الغابر، غير أنها لا تستثني، بمفهوم جغرافية الجزيرة، رفع ليماس جديد يحمي الشمال من "الهمج". لكن ما لا يتجلى أيضا بوضوح هو ما ساهم التاريخ في تشكله وهو يتطلب مزيدا من الحفر والتأمل. إذ أن المتمعّن في سيرورته يلاحظ أن الاستعمار قد أبلى شر البلاء في تجذّره بتأصيل النخب الفرنكوفونية في لغته وثقافته، وهو ما أمّن سياسات استلاب الدول الفرنكوفونية بتأمينها بالقوة الاستعمارية المشتركة الناعمة. وكأن الاستعمار هنا قد صار جزيرة أنتربولوجية وسط الغوغاء، كما يطلق على السواد الأعظم من الشعوب المحرومة، تتمتّع بخصائص ثقافية-حداثية اندمجت بجينوم نخبه الفاسدة التابعة. إذ على هذا العالم البشري المتفرّد الخاص تشع أنوار الحداثة التي من أجلها قد تخلى عن ابتكارها في الأوطان المتخلفة المنتمي إليها، وهو الذي قد اقتنع بأن نهب ثرواته لا يمكن أن تكون موضوع نقاش لا لشيء سوى لتعزيز نور تبعيته الأسطورية، اقتناعا منه بأنه لا فائدة له بالاعتراف بالثروات التي تمتلكها تلك الشعوب المستضعفة المضلّلَة. بحيث هكذا يرتسم تقليص الفوارق والاختلافات بين نخب فرنكوفونية دول الجنوب وشعوب دول فرنكوفونية الشمال بحقيقة جلدية لا تؤمن بها إلا نخب الجنوب المنبتة.
كيف إذا سيسحر أوليس عرائس البحر بإيقاع نايه العجيب وكذا بالنسبة لعابري سفينة القمة؟ أو بالأحرى كيف الفرنكوفونية الشمالية تحولت بوعيها الأحادي القطب المعهود إلى صانع انعتاق شعوب الجنوب وضامن مصيرها؟
الايديولوجية الخفية أو سياسة الانقلابات العسكرية
المتأمل في تاريخ فرنسا الاستعمارية بعلاقته بمستعمراتها يلاحظ أن كل الأنظمة السياسية التي حاولت ابتعادها عن ايديولوجية التبعية والتنكر لها قد وقع الحسم في أمرها بارتكاب انقلابات عسكرية جائرة وحروب أهلية وحتى اغتيال رؤساء دول في بعض الأحيان في ظروف غامضة. إذ يكفي للتذكير بما جرى لرئيس بوكينا فاسو توماس سنكرا والزج برواندا في حرب أهلية دموية أتت على الحي واليابس كانت فرنسا المحرك الأساسي في أسبابها واغتيال رئيس اليمن القوميّ الناصريّ ابراهيم الحامدي في فراشه من طرف جاسوسة فرنسية تعرف عليها خلال زيارته لباريس أو تسميم الهواري بومدين وقتل معمر القذافي ورئيس مدغشقر ورئيس هايتي وغيرهم من الزعماء القوميين اللذين تمت تصفيتهم جسديا نتيجة اختلاف سياستهم مع سياسة الاستعمار. وما دأبنا على متابعته أيضا من مشاركة فرنسا في زرع الكيان الصهيونيّ وتمكينه من القنبلة الذرية وتشريد الشعب الفلسطينيّ وزعزعة بلدان عربية نسبيا فرنكوفونية والزج بها في حروب أهلية كاليمن والعراق وسوريا ولبنان وإرتريا وليبيا والصحراء الغربية، وما أقدمت عليه مؤخرا من تدخل سافر في تغيير النظام الديمقراطي بتونس، من خلال اغتيالات زعماء أحزاب اتُهمت بارتكابها لها دون تقديمها ما ينفي ذلك، تلاها انقلاب عسكري، يبرهن على أنها لم تغير من سياستها الاستعمارية التي ورثتها منذ القرن التاسع عشر، التي أسست عليها ايديولوجية الفرنكوفونية قصد تأبيد استعباد وخضوع تلك الدول لسوق صناعاتها وتجارتها وتعزيز استبداد سوق السلعة والفرجة وسرقة الثروات غير المشروعة. بيد أن الأهم في هكذا السياسة الاقتصادية-المالية هو دعم قيم الجمهورية الفرنسية الكونية المناهضة للظلم، المروجة للحقوق الفردية والحريات العامة والخاصة والأخوة، كما نظّرت لها الثورة الفرنسية، التي تبين عبر التاريخ أنها وهْم وسراب لا حق له فيها إلا الشعب الفرنسي والأمم الغربية. غير أن ما يمكن هنا توضيحه أكثر هو أن المستعمرات الفرنسية وغيرها من المستعمرات الغربية قد سحبت تلك الحقوق والحريات عنها بذريعة، بالنسبة للبعض منها، رفضها الاندماج في القيم الغربية باسم خصوصيتها. وهو ما يشرّع، على أساس القانون الدوليّ، محاربة الاستعمار واستنزافه بكل الطرق والوسائل الممكنة. إذ ما يُرتكب من جرائم فظيعة في أوكرانيا مثلا سببه دغمائية ايديولوجية القطب الغربيّ الواحد، الذي يتزعمه الغرب بمشاركة فرنسا ولا يريد تقاسمه مع الاتحاد الروسي ولا مع الصين ولا مع أي قوة صاعدة أخرى. بحيث ما يريده الغرب كما هو الشأن بالنسبة لفرنسا هو تدمير التنوع بأيديولوجيتها الفرنكوفونية الأحادية الرؤية التي تنادي باندماج أقلياتها لا فقط داخل فرنسا، بل حتى الشعوب داخل حدود الدول التابعة لها. وهنا تجدر أهمية التذكير بأنه كلما تقلص التنوع تقارب التشابه، وهو ما يقره القانون الطبيعيّ، الذي على أساسه تُزج بالشعوب في الظلمات وتشن الحروب وتتناسل الانقسامات وترتكب الجرائم.
جربة بين سياسة الأطراف وسياسة المركز أو غواية أوليس الامتناهية
الاستبداد سليل الظلم الفاحش والعكس صحيح كذلك، وهو كما أقره بن خلدون ينبئ بخراب العمران، إذ تنظيم القمة الفرنكوفونية ب "جزيرة النبق" الأسطورية وُلِد في سياق التحضير وإنجاز الانقلاب بتونس، الذي كانت فرنسا، أم الفرنكوفونية، تمسك بكل خيوطه وهوية المتآمرين على مسار الديمقراطية، الذي نظريا وعمليا لا يخدم قيم الجمهورية الكونية، كما حاولنا سلفا توضيحه، ولا أيضا مصالح الدولة العميقة التي تتمعش على ما تنهبه فرنسا الاستعمارية من ثروات طبيعية وغيرها. كما أيضا أن مشاركة الإسلاميين في الحكم كان يتعارض مع قيم العلمانية، وهو ما قاومه الغرب طيلة قرون بعد إحداث الشرخ الثقافي في الفضاء المسيحي-المتوسطيّ الموحد باعتناق الإسلام لشعوبه وبعد استرجاع القدس وفلسطين تحت النفوذ المسيحيّ-اليهوديّ.
في هذا السياق يجدر التذكيرب"نحن الغاوون بلا نهاية" كما عنون روول فنيغيم Raoul Veneigem كتابه: Nous qui désirons sans fin، الذي قد يترجم حقيقة البنية الفكرية الاستعمارية بوضوح قل نظيرها. وما أعرضه هنا لا خدمة لحركة الوضعوية التي قدمت نقدا منهجيا لسوق السلعة والفرجة في المجتمعات الغربية، الذي حوّل الغرب إلى سوق رفاه يتميز بأسلوب حياة راق صار في آخر المطاف كل ما يتقاسمه الغرب مع أفراده من خلال تأصيل إيديولوجية الفراغ والدفاع عن الديمقراطية باسم ذلك القاسم المشترك بين مكوناته. بيد أن السؤال الرئيسيّ المعتم مازال ينبض بهاجس كيفية الصمود له بدونه. ذلك أيضا ما سهرت على توريده الدول الفرنكوفونية وتسويقه لشعوبها دون النظر فيه ونقد مضمونه، دليلها في ذلك والدفاع عنه أنه مدخل للحداثة، وهو في الحقيقة كذبة كبرى إذ ذلك التوجه لا يتعدى المحاكاة والتقليد الممسوخين، الذي جعلت منه المدرسة سلّما للارتقاء الاجتماعي، تنحصر أهدافه في التلقين ونشر الدغمائية الايديولوجية على حساب التدبّر والتفكير والعلم والعمل الدؤوب على التحرر والانعتاق من قيود ثقافة الاستلاب والاسترقاق. وأوفى دليل داعم لخلفية تمدرس الناشئة على هذا المنوال الغير الوطني الهدام هو تهميش الذكاء المبدع الخلاق من طرف الدولة، بل حتى منعه من الظهور وتحجير الدعاية لأهمية محتواه وقدرته على تغيير الواقع المنكوب. ذلك أيضا ما ينطبق على بقية دول الفرنكوفونية التي يمكن من خلال النظر في برنامج القمة استخلاصه وربطه بتاريخ شبه استقلالها المزعوم.
إدراك غواية فرنسا الامتناهية والغرب ليس صعبا إن وضعناه في إطار ما تعيشه تونس والدول الفرنكوفونية اليوم من أزمة سياسية-اقتصادية حادة بعد تآمر فرنسا وحلفائها الإقليميين والدوليين على تفتيت مكونات الحرية، التي سطعت بنورها الثورات العربية المغدورة.
مفارقة أخرى، لا تقل أهمية عن ما بيناه من قبل، تتعلق بشعارات المنظمة الدولية الفرنكوفونية التي تسوّق للسلام والتعاون الاقتصادي والعلمي بين أعضائها، والحال أن فرنسا ما فتئت تتدخل عسكريا وسياسيا في شؤون الدول الفرنكوفونية، وهو ما لا يأهلها بلعب ذلك الدور الجوهريّ في فك النزاعات الدائرة بين أعضاء المنظمة ودول أخرى.
مركزية الدولة الأم للفرنكوفونية بهيمنتها الايديولوجية الاستعمارية المتخفية لا تسعى قط للسلام والتسامح مادامت ترفض تقاسم الثروات مع شعوب الأطراف المحرومة منها التي طوقتها بوضع أنظمة استبدادية على هرم سلطاتها تنتهك كل يوم أمامها الحقوق والحريات بلا ردع ولا إقصاء. ذلك أن تنظيم القمة الفرنكوفونية بجزيرة جربة يعيد مفهوم الأطراف للنقاش لا فقط بالنسبة لتونس العاصمة بأطرافها المعزولة وإنما الأطراف أيضا هي الدول المنتمية للفرنكوفونية ببعدها السحيق عن المشاركة في أخذ القرار المركزيّ وتنفيذه على أرض الواقع داخل حدودها الجغرافية.
ولكن هل ذلك يعني أن أوليس قد هَزم هوركيل باستعادة حبيبته بينلوب التي قد اختطفها في غيابه؟
الأسطورة هنا لها وقع عنف دلالة متاهة الواقع والتاريخ بكل ما تحمله من ايديولوجية المركز والاطراف التي لا تؤمن إلا بالانغلاق على ذاتها وهي جاهدة تسعى لتخليد العلاقات الأفقية على حساب العلاقات العمودية، المستبطنة انتصار المركز وما يروج له من تمثّل صارخ للهيمنة باللجوء للقوة الغاشمة إن دعت الحاجة.
هنا يُطرح مخيال المنظمة الفرنكوفونية الدولية، الذي أردنا تجسيده، من خلال الحفر في الأدب الكونيّ في علاقته بمفهوم الجزيرة كفضاء مغلق على نفسه يتوق دوما إلى التوغل في المجهول والإبحار، إذ روبن كريزوي لدنيال ديفو وأوليس لهومير وأوليس لجيمس جُويس كلها حكايات أسطورية ومحاكاة كونية لواقع شعوب استطاعت، من داخل حدود جزر معزولة، بقوة نسيجها الاجتماعي-الصناعي- الحضاري التّمدّد الجغرافيّ والسيطرة على بنى ذهنية لا تثق بمقدرات ومدى عمق عبقرية شعوبها عندما لا تُسخر لها الإمكانيات المادية والمعنوية لتدجين المستحيل وتحدّيه. بحيث تغيير الواقع والدفع به نحو الذرى المضيئة لا يتحقق إلا بالرجوع لمعاينته بهويته الحقيقية. إذ من تلك الينابيع الصافية يتدفق إبداع الشعوب المتفوقة لبناء صروح التطور والمجد والانتصار على التخلف والجهل والانحطاط.
يبقى في النهاية طرح نفس السؤال بصيغة أخرى، لا يستبعد للخروج من متاهة الحداثة الزائفة، الخيار بين الانفصال عن المركز كما دعا لذلك سمير أمين وتعميق تأصيل التبعية والاستسلام لواقع القوة المتحيّلة الغاشمة وزيف التاريخ وأهمية مقاومته جذريا.