وسط موجة تحويل الوطنية إلى الهوية الكروية الشعبوية، حيث هدف كرة أو انستاغراموز أو مدون غبي أهم من أي عالم أو مناضل عربي، فيما مئات وربما آلاف الوطنيين المثقفين يموتون في صمت في السجون العربية بقرار باسم الوطنية أيضا، في علاقتنا العدوانية التاريخية بالسلطة في العالم العربي، استحضرت ذكريات مراهقتي العاطفية أنه في واحدة من ثلاثية نجيب محفوظ، تنتهي القصة بالنسخة الأصلية من أغنية:
"بلدي يا بلدي، يا عزيز عينى بلدى يا بلدى وأنا بدى أروح بلدى والسلطة خدت ولدى"، وهي من روائع سيد درويش التي لم أعثر لها على أثر موسيقي يساوي ما خلفته رواية نجيب محفوظ في ذاكرتي سوى عام 2010 في زيارة مطولة إلى القاهرة وما حولها.
كنت محملا بتراكم أحزان مواطن عربي في علاقته الظالمة بالسلطة التي "أخذت ولدي" ومعه أحلامي وكرامتي، يجب أن أذكر أيضا أن رواية "في بيتنا رجل" لإحسان عبد القدوس على سذاجتها لم تكن سوى تكملة لمأساة الحب والسياسة والسجن، لم توفر لنا إجابة بقدر ما قادتنا إلى سجن الوطن، ورغم ذلك فقد ظللت مسحورا بالمشاعر التي أدت إلى أغنية "بلدي يا بلدي" في رواية نجيب محفوظ،
كنت قد استمعت وأنا منفي في معهد مدينة تاجروين بسبب التشويش وفوضى الرفض، إلى الشيخ إمام في طريقته في أدائها لكنها كانت بعيدة عما أريده، إلى أن سلمني زميل في الأهرام إلى "حارة التونسيين" وسط غرز المخدرات والإجرام والفتوات في القاهرة القديمة التي احترقت فيما بعد، وكنت أود أن أكتب ريبورتاجا عن صناعة الآلات الموسيقة القديمة في القاهرة حين وجدت نفسي مع صانع آلات موسيقية عجوز وسط الفوضى التي يمكن توقعها في مثل محل من عشرة أمتار مربعة، ولأمر ما، بدا له أن يعزف على آخر آلة عود صنعها أغنية "بلدي يا بلدي"، لم تكن آلات التصوير وقتها تسمح بتصوير أكثر من بضع دقائق قبل توقف البطاريات، لذلك وضعتها جانبا وغنيت معه،
كان أكثر شخص ذكرني بأجواء الأغنية في تلك المناخات الخرافية للأحياء العتيقة في القاهرة القديمة، اليوم، أحس أكثر من أي وقت مضى بأجواء ومناخات تلك الأيام الشاقة:
يا عزيز عينى بلدى يا بلدى
أنا بدى أروح بلدى والسلطة خدت ولدى