بعد مضي عشرة أيام على بداية كأس العالم في قطر بدأت ملامح المشهد تستقر تدريجيا لترسم بهدوء صورته الكاملة التي ربما لم يتداخل فيها من قبل السياسي بالرياضي بالثقافي كما حصل هذه المرة.
وطالما أن الأجواء كروية بامتياز، وطالما أن مفرداتها هي الطاغية حاليا، ولا حديث بعد كل مباراة سوى عن أبرز اللقطات والتعليق عليها، فلننطلق في الحديث بنفس تلك المفردات لنصرخ على طريقة معلقي المباريات بما يلي:
هدف….غووووووول: سجلته قطر بنجاحها إلى حد الآن في تنظيم هذه التظاهرة الدولية كأحسن ما يكون التنظيم ليس فقط بحفل الافتتاح المبهر، بل أيضا بتوفير كل مقوّمات النجاح الأخرى من ملاعب ضخمة جميلة، الدخول والخروج منها في غاية السلاسة والانضباط، وحركة تنقل سريعة ومنظمة في البلاد، مع تظاهرات ثقافية وحفلات في كل مكان جعلت القدوم إلى البلد أكثر من مجرد القدوم إلى مباريات كرة قدم، مع أمن صارم لكنه ناعم. كل ذلك، رغم كل الهمز واللمز الذي لم يتوقف إلى اليوم.
الجمهور: الذي جاء من كل أصقاع العالم أبدى من الانضباط واحترام قوانين البلد وثقافته ما يستحق الإشادة والتحية داخل الملعب وخارجه. انخرطت كل الجاليات، سواء المقيمة في قطر أو القادمة إليها، في أجواء فرح منقطعة النظير مع إقبال على التعرّف على عادات وتقاليد هذه المنطقة إلى درجة أصبحت فيها «الغترة والعقال» على كل الرؤوس، بل وصُبغت بكل ألوان الأعلام المشاركة كما تفنّن آخرون في تطويع «الثوب» الخليجي بنفس الطريقة أو الاكتفاء بارتدائه بلونه الأبيض الناصع.
في التسلل: وقع كل الذين كان كل همّهم فشل هذه التظاهرة العالمية لإثبات أن بلدا عربيا شرق أوسطيا صغيرا ما كان ليكون أصلا جديرا باحتضانها. وحتى تلك الضجة التي أثيرت حول حضور وأعلام من يسمّون أنفسهم بـ«المثليين» تراجعت بسرعة لتترك الأجواء رحبة لحديث المباريات وتشويقها ومتعتها مما مثّل فشلا ذريعا في تحويل المسألة إلى محور اهتمام الكرة الأرضية كلّها، في مسعى متعجرف لفرض قيم ارتضاها بعض الغرب لنفسه لكنه يريد عنوة أن يزيّنها كذلك في عيون الجميع.
رميات حرّة مباشرة…سدّدها عدد من اللاعبين السابقين والحاليين والإعلاميين، وحتى من بين الجماهير الحاضرة، للحملة المسعورة التي سبقت كأس العالم وجنّ جنونها مع انطلاقه، متهمين من يقف وراءها بالنفاق والغرور. من بين من سدّد هذه الضربات، على سبيل الذكر لا الحصر، قائد الفريق السويسري الذي صرّح بأنهم جاؤوا إلى قطر للعب الكرة وليس للخوض في السياسة قائلا إن هذا بلد مسلم وله عاداته التي يجب احترامها، عكس ما قام به الفريق الألماني في صورته الجماعية من حركة مفتعلة للغاية.
ورقة صفراء… في وجه وزيرة الداخلية الألمانية بعد مخالفة مكشوفة، وصبيانية إلى حد كبير، فالسيدة المؤتمنة على تطبيق القانون في بلادها لا ترى حرجا في انتهاك قوانين بلد آخر يستضيفها متجاوزا ما سبق أن قالته في حقه وعدّلته عندما زارته قبل بضعة أسابيع. أن تعتبر الوزيرة أن إظهارها لتلك الألوان على زندها «نصرا مؤزرا» فذلك شأنها، لكنها حركة نمّت عن الكثير من قلة الذوق زادها تعاسة رئيس «الفيفا» بصورته معها وكأنه يبارك ما فعلته رغم أن «الفيفا» نفسها هي من منعت إظهار مثل هذه العلامات. نفس الورقة الصفراء ترفع في وجه الكثير من الإعلام الغربي، والأوروبي ربما أكثر من غيره، لما أظهره من قلة مهنية معيب.
ورقة حمراء… في وجه الإسرائيليين الذين حضروا إلى الدوحة. صحيح أن قطر لم يكن باستطاعتها أن تمنع حضور هؤلاء بأي حال من الأحوال، لكن ذلك لم يحل دون أن يلقى هؤلاء كل ما من شأنه أن يشعرهم بأنهم غير مرغوب فيهم أبدا. لقد حاول الصحافيون الإسرائيليون في كل مراسلاتهم من الدوحة إظهار جو النفور والعداء الذي واجهوه بين الجمهور وفي سيارات الأجرة والمطاعم مصوّرين أنفسهم «ضحايا» لمشاعر كراهية لم يفهموها لأنهم توهّموا أن أجواء الترحيب المنافق الذي لقوه في أكثر من دولة عربية وتوقيع ما سمي بـ«اتفاقات إبراهيم» معهم كفيل بخلق مزاج عربي مختلف، متناسين تماما جوهر المشكلة المعروف منذ عقود. لعل ما جرى مع الإسرائيليين في الدوحة يمكن أن يشكّل رسالة قوية لأصحاب القرار الأمني والسياسي عندهم لفهم أن ما قاموا به من تطبيع مع عدد من الدول العربية لا قيمة له أبدا طالما بقي احتلالهم البغيض وممارساتهم العدوانية.
تقنية «الفـــار».. قد لا يكون مفرّا من العودة إليها لاحقا لإعادة مشاهدة الكثير مما جرى والتمعّن فيه لاستخلاص العبر، من قبل الحكومات الغربية والعربية التي تنتظرها مراجعات هامة من عدم المسؤولية تجاهلها، لأن ما جرى طوال هذه الأيام يتجاوز بمسافات بعيدة مجرّد تظاهرة كروية موسمية.
إن لم نفعل ذلك، أو أخذناه ببعض الاستخفاف، فسيكون كل ما كتبته سابقا لعبا في الوقت الضائع!!