التقييم الموضوعي لأي مرحلة ممكن بعد أخذ مسافة امان في الزمان والمكان... ها قد رحلت منظومة ما قبل 25 جويلية وجاء الفارس المغوار على حصانه الأبيض يوم 25 جويلية لينقذ البلاد والعباد.. وهاهي الحصيلة تقريبا صفر، بل واصبحت سلبية بعد فقدان كل مكتسبات الثورة... فماذا تركت حكومات ما قبل 25 جويلية؟!
يصعب الوقوف عند كل اخفاقات ومنجزات تلك الحكومات.. لكن يكفي ان نستحضر لكل حكومة إنجاز وحيد او اكثر يمكن أن نعتبره جوهريا في تاريخ تونس السياسي والمؤسساتي مما يجعلنا نحكم على كل حكومة بشيء من الإنصاف..وبعيدا عن التعويم والتعميم المجحف واكتفي بعرض قائمة لمنجزات كل حكومة.. تعتبر في ميزان السياسات العامة بمثابة ثورة حقيقية:
1/ حكومة الباجي الله يرحمه…
يحسب لهذه الحكومة صدور النصوص المؤسسة للديموقراطية في تونس وابرزها:
- المرسومين 115 و116 اللذان ارسيا حرية الإعلام الشاملة لأول مرة في بلد عربي.
- مرسومي الاحزاب والجمعيات.
- المصادقة على كل الاتفاقيات الدولية الحامية لحقوق الإنسان ورفع التحفظات عن البعض منها.
- تسوية وضعية 100 الف تونسي من أصحاب الوضع الهش (الحضائر والاليات والمناولة).
2/ حكومة الترويكا…
تعتبر هذه الحكومة اول حكومة في تاريخ تونس تخصص 6 مليون دينار لميزانية التنمية (في السابق لم تتجاوز مليوني دينار).. ولا يخفى علينا العجز عن تنفيذها لأسباب معقدة.. يطول شرحها…
3/ حكومة المهدي جمعة…
- إقرار مبدأ رفع السر البنكي عن إدارة الجباية كان ثورة قانونية لا في تونس فقط بل حتى مقارنة بدول متقدمة مثل سويسرا والنمسا ولوكسمبورغ وسنغافورة…
- الأمر 1039 المتعلق بالصفقات العمومية.
4/ حكومة الصيد
-ثلاثة قوانين وعملية أمنية اعتبرها نقاط ضوء في تاريخ هذه الحكومة وهي:
- قانون المنافسة والأسعار (رغم نقائصه الكثيرة) .
- قانون مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال.
- قانون استقلالية البنك المركزي (رغم تحفطاتي على بعض بنوده فيما يتعلق بالخلط بين الاستقلالية القانونية والاستقلالية الوظيفية).
- قانون النفاذ إلى المعلومة.
-القضاء على أخطر إرهابي هدد تونس وهو لقمان ابو صخر .
5/ حكومة يوسف الشاهد
- قانون مكافحة الاتجار بالأشخاص.
- تنقيح مجلة الإجراءات الجزائية بشأن الاحتفاظ.
- القانون عدد 38 الخاص بالعاطلين عن العمل ممن طالت بطالتهم.
- قانون الاستثمار (مراجعة شاملة لنظام الحوافز وتصنيف مناطق التنمية) .
- قانون حماية المعطيات الشخصية.
- مجلة الجماعات المحلية.
- القانون الأساسي للميزانية الذي وضع لأول مرة في تونس قواعد ميزانية حسب الأهداف.
- إلغاء 27 رخصة اقتصادية وتعويضها بكراسات شروط (قرار جريء من حيث المبدأ رغم نقائصه) .
- قانون الاقتصاد التضامني.
- قانون التمويل التشاركي.
هذان القانونان سبقا قانون الشركات الأهلية لما بعد 25 جويلية الذي اعتبره انتحالا وفوسكة سيئة لهما..
6/حكومة الفخفاخ
- رغم قصر مدتها واجهت هذه الحكومة جائحة كورونا بأفضل الأساليب الممكنة وتميزت بشجاعتها.
- يعتبر اخضاع إسناد الخطط الوظيفية العليا للتناظر اهم اجراء حسب رأيي حيث وضع الإصبع على أخطر داء نخر الوظيفة العمومية:
- انعدام التحفيزmotivation
- غياب الجدارة في التعيين mérite
7/حكومة المشيشي
شهدت تعطيل أعمال البرلمان ومع ذلك صدر اجراءان مهمان في قانون المالية 2021:
- ربط دفع معلوم الجولان بتسوية الوضعية الجبائية.
- إلزام الدولة بانتداب 10.000 شاب ممن طالت بطالتهم…
8/ كل الحكومات ما قبل 25… اجمعت على عدم المساس بالحريات
9/ لم تتمتع اي من الحكومات باي هدنة اجتماعية خلافا لحكم ما بعد 25…
نعلم جيدا ان:
- العبرة بنجاعة القانون لا بصدوره…
- ان كل تلك القوانين لا تخلو من الثغرات…
- ان هناك اجراءت أخرى فاشلة او سيئة (القانون الانتخابي)…
- ان كل الحكومات ارتكبت أخطاء كثيرة… كيف لا وهي تعمل "وموج المنايا حولها متلاطم".. كما يقول الشاعر..
- انه وقع الالتفاف على اغلب تلك الإجراءات…
لكن في العتمة نبحث دائما عن بصيص من النور…والموضوعية تقتضي "اعط لقيصر ما لقيصر ولله ما لله" (فلا يجرمنكم شنآن قوم على ان تعدلوا) .
واخيرا ماذا فعل صاحبنا منذ 25 جويلية…
لاشيء… سوى انه:
- ابطل مفعول كل تلك الاصلاحات والإجراءات وارسى نظام الأحكام العرفية loi martiale، الذي ودعته تونس منذ سنة 1857…(قرن ونصف).
- اشبعنا بالجمل الرنانة والمحسنات البديعية والسجع والجناس والطباق… والمقابلة والتورية… وجميعها لا تسمن ولا تغني من جوع…