استيقظت باكرا ،تأنّقت و تعطّرت و اتّجهت مباشرة إلى محطّة سيّارات الأجرة لأستقلي إحدى السيّارات و أخلد إلى النّوم مجدّدا قطعته مرّتين على وقع صوت السّائق و هو يطلب منّي بطاقتي الشخصية ليدلي بها إلى أعوان الشرطة ،كانت التضييقات منتظرة و متوقّعة بل كنت اعتبر أنّ مجرّد وصولي إلى شارع الثّورة نجاحا ،بعد استراحة قصيرة في مقهى احتسيت خلالها قهوة سريعة و اشعلت سيجارتي الاولى، وصلت قبالة المسرح البلدي و كانت أعداد المتظاهرين لحظة وصولي اقلّ بكثير ممّا كنت أتوقّع ليستقبلني صديق رفيق و قد تفاجأ بوجودي في ذاك الموقع و كأنّي في المكان الخطأ!
كان الشعارات المكتوبة على اليافطات أو الّتي تطلقها الحناجر هي نفسها الّتي ترفع في المظاهرات المناهضة للانقلاب الّتي حضرتها تقريبا جميعا و عددها 22 ما عدى شعارين لأهمّ بالتّراجع و أفكّر في الانسحاب لولا أن سقط بجانبي شاب مغشيّا عليه لأنغمس في اسعافه على وقع أغنية "يا غنّوشي يا سفّاح يا قتّال الارواح"و لأتمّ العملية بنجاح و اكتشف أنّني لم أكن حقيقة في المكان الخطأ!
تظاعفت اعداد المتظاهرين بعد أن نجحت الحشود في المرور على عكس السّنة الفارطة لتتواجد في شارع الحرّية و الإحتفال بذكرى الثّورة المغدورة .
"في السنة المقبلة لن تجدون سوى واحدا يحتفل بالرّابع عشر من جانفي" هكذا تمنّى من أراد أن يطمس هذه الذكرى، ذكرى ثورة ينكرها و لم يشارك فيها ،فكانوا بالآلاف و من جميع الأطياف.
و بالرّغم من العقد الايديلوجية و الحسابات الضيّقة لدى البعض فإنّ مجرّد وصول المتظاهرين إلى شارع الحرّية و تظاهرهم في نفس المكان برغم اختلافاتهم يعتبر في حدّ ذاته نجاحا و انجازا في انتظار أن يعي الجميع بما تتطلّبه خطورة اللّحظة من ضرورة تناسي الألوان و الالتفات إلى ما تتطلّبه من استحقاقات هي بالأساس اجتماعية و اقتصادية قبل حصول الإنفجار المدمّر الّذي لن يستثني أحدا.
بالأمس اثبت الحاضرون بأنّ نور الثّورة في قلب تونس مازال حيّا و أنّ الثورة الّتي اندلعت لتنجح ،لها نجاحات و انتكاسات و موجات ،مستمرّة و تنبض بالحياة، مادامت أسبابها ماتزال قائمة و مادام مازال يوجد على هذه الأرض من مازال يؤمن بها.
الثّورة فكرة و الفكرة عصيّة على الموت.
بعض الغربان و عرّابي الانقلاب البائس منتشون لمجرّد استمرار النّظام القائم بعد مثل هذا الحراك،و الجميع يعلم أنّ هذا النّظام الميّت سريريا و المعزول محلّيا و دوليّا لا يملك مقوّمات الاستمرار و أنّ مسألة اعلان موته و دفنه هي مسألة وقت و ترتيبات،و أنّ مثل هذا الحراك هو لفرض أجندة وطنيّة حتّى لا تترك السّاحة شاغرة و مهيّأةلما يطبخ في الغرف المظلمة.
و ماذا بعد؟ و ما الحلّ؟..سنستمرّ في المقاومة السلمية لأجل أنفسنا و لأجل مستقبلنا و خصوصا لأجل أبنائنا الّذين لا نريد لهم أن يتذوّقوا مثلنا ما تذوّقناه من ذلّ…لن نكلّ في ذلك و لن نملّ.