في منتصف نهار تلبّدت سماؤه بغيوم عقيمة و شمسه تقاوم لترسل بعض الأشعّة الخجولة و تنشر بعض الدّفء في جوّ يلفّه الصّقيع،رنّ جوّالي لتهاتفني امرأة مسنّة تستغيث طالبة نجدة لابنها و هو ينزف بعد أن قطع شرايين يده اليمنى،أعلمت الشرطة و الطّوارئ لتجدني بعد لحظات أمام كهل خمسيني مستلق و يده تتدلّى و قد كفّ النّزيف بعد أن أفرغ معظم ما في شرايينه في دلو وضعه بجانبه،و بالرّغم من حالته الحرجة لم يفقد وعيه بل سارعني بالإجابة على سؤال لم أطرحه :"قطعت شريان معصمي بمقصّ أظافر و تناولت عشرة أقراص من دواء مثبّط لدقّات القلب،أريد أن أموت،دعني أرحل".و نقيض رغبته المميتة في موت يستعجله نقل إلى قسم الطّوارئ ليتمّ اسعافه و انقاذه.
كان هذا الكهل في سعة من العيش و قد يفسّر اصابته بمتلازمة ثنائية القطب اقدامه على محاولة الانتحار هذه، لكن ما الّذي يفسّر قطع طبيبة أطفال مقيمة لشرايين يدها في نفس اليوم؟
و ما الّذي يفسّر اقدام خمسة من المواطنين التونسيين على الانتحار في مناطق مختلفة من هذا الوطن المنكوب،اثنان شنقا و ثلاثة حرقا في ظرف 48 ساعة مضت؟
و ما سرّ ارتفاع ضحايا حوادث الطّرقات بشكل مفزع لتبلغ10 قتلى و 463 مصابا في أقلّ من 24 ساعة؟
أمّا عن قوارب الموت فحدّث و لا حرج.
ما الّذي يجعل الرّغبة في الموت تنتصر على الرّغبة في الحياة؟
لو خضنا حربا دمويّة طاحنة أو تعرّضنا لزلزال مدمّر لما شاهدنا مثل هذه الأرقام!
رائحة الموت تزكم الأنوف و الخراب يعمّ النّفوس، خراب ليس بالوافد الجديد أو المستجدّ الطّارئ، بل هو حصيلة عقود من التخريب عمّقه ما نعيشه من عبث و مصائب نتيجة لانقلاب غبيّ طائش نشر اليأس و نفث الحقد و ضرب ما بقي فينا من قيم و سعى إلى قتل الأمل و كلّ رغبة في الحياة.
لم تكن آثار الانقلاب المدمّرة مادّية فحسب،من ضنك عيش و ارتفاع مكوكي للأسعار و فقدان لأبسط المواد الحياتية من غذاء و دواء وسجن المعارضين و تدمير للمؤسّسات و تضييق على الحرّيات، بل شملت ما هو أخطر و أمرّ و هو نشر اليأس و قتل الرّغبة في الحياة.
و في ظلّ هذا المشهد السّوداوي القاتم الكئيب يتحدّث بعض من لا يملك ذرّة من خجل و بكلّ صفاقة عن عرض الجزء الثاني من مسرحية الانتخابات المهزلة،ليهدر المال العام و تسخّر اجهزة دولة فاشلة و مفلسة بحثا عن شرعيّة مفقودة،و تستعدّ هيئة انتخابات معيّنة فاقدة للمصداقيّة للتزوير، بينما غالبية الشّعب يلهث وراء قوت يومه و يقف السّاعات الطّوال في طوابير البحث عن سلع مفقودة في بلد صار يتلقّى شحنات الإغاثة.
مرّة أخرى..سنقاطع و سنقاوم أعداء الحياة بما بقي فينا من رغبة في الحياة.