وَلاَتَ سَاعَةَ مَنْدَم
إن ما نعيشه اليوم من استخدام للمحكمة العسكرية لمحاكمة المدنيين بشكل لم يعرفه القضاء التونسي طوال تاريخه من اجل ملاحقة المعارضين السياسيين يحتاج منا إلى التوقف أولا عند تجربتنا مع القضاء العسكري في القضايا الكبرى التي عرفتها تونس بعد الثورة ثم عند مواقف نواب البرلمان والأحزاب السياسية من مجلة المرافعات و العقوبات العسكرية ومن قضية إحالة مدنيين على أنظار المحكمة العسكرية سواء في المجلس النيابي المنبثق عن انتخابات 2019 أو الذي قبله وحتى في المجلس الوطني التأسيسي إبان مناقشة الباب الخامس من الدستور المتعلق بالسلطة القضائية.
1) تجربتنا مع القضاء العسكري
إن أداء المحكمة العسكرية في قضايا هامة ووطنية كان في أكثر الأحيان مخيباً للآمال لا بل أكثر سوءا من القضاء المدني ، فهل يمكن أن ننسى الأحكام الصادرة عشية 12 أفريل 2014عن الدائرة الجنائية بمحكمة الاستئناف العسكرية بتونس في قضايا شهداء الثورة وجرحاها بتونس الكبرى وتالة و القصرين وصفاقس التي تراوحت بين ثلاث سنوات سجنا وعدم سماع الدعوى في حق عدد من رموز النظام السابق والموظفين السامين والقيادات الأمنية ، من بينهم وزير الداخلية ومدير الأمن الرئاسي وما تضمنته الأحكام الاستئنافية من حط ملحوظ للعقوبات الصادرة ضدهم في الطور الابتدائي وتبرئة بعضهم في عدد من القضايا المتعلقة بقتل متظاهرين أو محاولة قتلهم ،؟
كانت الأحكام صادمة بكل المعايير في جزئياتها وكلياتها . هي صادمة لأنها خرجت علينا في يوم عطلة أخر المساء بما يذكرنا بممارسات العهد البائد البغيضة . لكأنّها تريد إن تتسلل إلينا ليلا في ما يشبه العمل اللصوصي . هي صادمة حين تلجأ المحكمة إلى إعادة تكييف الجرائم التي أحيل بموجبها المتهمون وهكذا تصبح جرائم القتل العمد أو المشاركة فيه قتلا على وجه الخطأ أو العنف الشديد الناجم عنه سقوط بدني .
هي صادمة أيضا حين تكاد الأحكام الصادرة ( يا للصدفة العجيبة ) تتطابق بشكل مريب مع المدة التي قضاها بعض المتهمين بما يعني إطلاق سراحهم. أما بالنسبة لمن لم يصلوا إلى هذه المدة فقد أسعفتهم المحكمة بتأجيل التنفيذ . هي صادمة أيضا حين تخفض الأحكام إلى الأدنى وترفع التعويضات في منطق هو أشبه بمنطق " خذ المال واسكت عن الدم" او منطق " اطعم الفم تستحى العين" . هي صادمة اخيرا حين يرفع تحجير السفر عن المتهمين باعتبار الحكم نهائيا بما سيسمح لأغلبهم من الفرار من البلاد .
2) نوابنا ومنطق الانتهازية
ولكن ما يصدمنا أكثر هو منطق الانتهازية البغيض الذي تعاملت به أحزابنا مع المحكمة العسكرية إبان مناقشة دستور2014 وقضية التنصيص الواضح على أن القضاء العسكري هو قضاء استثنائي وليس قضاء متخصصا لتجنّب توسيع صلاحياته لاحقا خارج نطاق الجرائم العسكرية المرتكبة من العسكريين عند قيامهم بوظائفهم وذلك باعتبار أن القضاء المدني هو القضاء الطبيعي الحامي لحقوق وحريات كل الأفراد بمن فيهم العسكريون . من يتصايحون اليوم ويطالبون بمحاكمة مدنية للمدنيين وعلى رأسهم حركة النهضة صاحبة الأغلبية في المجلس التأسيسي، صارعوا كلهم تقريبا من أجل الإبقاء على المحكمة العسكرية بصلاحياتها المنصوص عليها في مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية. " كما استمات نواب النهضة خصوصا من اجل أن يكون القضاء العسكري ممثلا في المجلس الأعلى للقضاء لولا الوقفة الحازمة لجمعية القضاة إبان مناقشة الباب الخامس المتعلق بالسلطة القضائية من مشروع الدستور في المجلس الوطني التأسيسي ورفضها لحشر العساكر في مجلس القضاء المدني. ولقد أفضى الأمر أخيرا إلى ترك الأمر على حاله فجاء في الفصل الأخير من دستور 2014 وهو الفصل 149 والذي حشر حشرا ليؤكد على مواصلة المحكمة العسكريّة ممارسة الصّلاحيّات الموكولة لها بالقوانين السّارية المفعول إلى حين تنقيحها بما يتماشى مع أحكام الفصل 110. " .
لم يكن أحد من المنتصرين للمحكمة العسكرية الذين أسكرهم منطق السلطة وقتها يعرف أية جناية جنوها على البلاد وعلى أنفسهم بتفريطهم في الفرصة المتاحة وقتها لمنع محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية دستوريا . فرطوا في هذه الفرصة الثمينة كما فرطوا في المساهمة في تركيز المحكمة الدستورية وفشلوا طوال 5 سنوات في انتخاب 4 أعضاء في المحكمة الدستورية . تلك مآسي الانتقال الديمقراطي الذي تألب عليه أهله في ما يشبه العمد والإصرار..فكان الذي كان بعد 25 جويلية . و لاتَ الساعةُ ساعةَ مَنْدَم. !
مع العلم ان مجلّة المرافعات والعقوبات العسكريّة لسنة 1957، كما تمّ تنقيحها بمرسومين مؤرّخين في 29 جويلية 2011، تنص على أن للمحاكم العسكريّة سلطة تتعدّى ما هو منصوص عليه في دّستور 2014 حيث لم يحذف التّحوير الحاصل بمقتضى المرسوم 69 لسنة 2011 سلطة القضاء العسكري على المدنيّين وبشأن الجنح ذات الطّابع غير العسكري التي يقترفها العسكريّون ( الفصل 5) . وبذلك يمكن رفع مخالفات الحقّ العام التي يقترفها مدنيّون أمام أنظار المحاكم العسكريّة عندما تكون الضحيّة من السّلك العسكري كما للمحاكم العسكريّة صلاحيّة النّظر في المخالفات المقترفة في حقّ الجيش.
وللتذكير وبغاية وضع حد لمحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية أحال مكتب مجلس نواب الشعب على لجنة التشريع العام في17 ديسمبر 2018مبادرة تشريعية جديدة (مقترح القانون عدد 85 لسنة 2018 ) تتعلق بتنقيح وإتمام مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية، وتم تقديم هذه المبادرة من قبل النواب زهير المغزاوي ومحمد الحامدي وغازي الشواشي ورضا الدلاعي وريم الثايري ونعمان العش وفيصل التبيني وسامية عبو ومبروك الحريزي وعماد الدايمي..
وتعهدت نفس اللجنة قبل ذلك بالنظر في مبادرة تشريعية أخرى لتنقيح نفس المجلة من نواب النداء .فقد أعلنت النائبة عن حركة نداء تونس نجلاء السعداوي يوم الاربعاء 2 نوفمبر 2016 عن مبادرة تشريعية موقعة من عدد من النواب من مختلف الكتل البرلمانية لتعديل الفقرة السابعة من الفصل 5 والفصل 91 من مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية بنية الإبقاء على الطابع الاستثنائي للمحاكم العسكرية.وشددّت السعداوي على أن دور القضاء العسكري يقتضي أن يكون اختصاصه مختصرا على القضايا التي يكون فيها طرفا النزاع من العسكريين (أي المتهم والمتضرر ) وليس من المدنيين على غرار ما وقع في 2016 من محاكمات للصحفيين بالمحاكم العسكرية.
وتضمنت المبادرة الثانية ستة فصول وجاء في وثيقة شرح الأسباب أن الفصل 110 من الدستور نص على أن المحاكم العسكرية محاكم مختصة في الجرائم العسكرية ويضبط القانون اختصاصها وتركيبتها وتنظيمها والإجراءات المتبعة أمامها والنظام الأساسي لقضاتها. ونص الفصل 149 من الدستور الوارد في باب الأحكام الانتقالية على ان تواصل المحاكم العسكرية ممارسة الصلاحيات الموكولة لها بالقوانين السارية المفعول إلى حين تنقيحها بما يتماشى مع أحكام الفصل 110. ويرى أصحاب المبادرة التشريعية انه من غير المعقول ان تبقى هذه الوضعية قائمة بعد قرابة الخمس سنوات من إصدار الدستور. . وقد سحبت هذه المبادرة لأسباب غير معلومة ولا ندري إذا كان أصحابها غيروا رأيهم في ما يخص موضوع المبادرة أو أن جهات أخرى عملت على إجهاض المقترح قبل وصوله إلى الجلسة العامة. هكذا تألب الجميع تقريبا من اجل ان يبقى سيف المحكمات العسكرية مسلولا على رقاب المدنيين .
3 )من سيئ إلى أسوأ !
نحن بلا شك ضد محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية لتناقضها مع الفصل 110 من الدستور ومع المبادئ الدولية الرافضة لمحاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري وخاصة العهد الدّولي الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسياسيّة إلّا إذا كان ذلك من باب الاستثناء و خاصّة في الحالات التي لا تتمكّن فيها المحاكم العاديّة من الاضطلاع بدورها ( التّعليق العامّ 32، الفقرة 22) هذا و تنصّ مبادئ الأمم المتّحدة لحماية حقوق الإنسان ومحاربة الإفلات من العقاب بوضوح على أنّه “يجب أن يقتصر اختصاص المحاكم العسكريّة على المخالفات العسكريّة تحديدا التي يرتكبها العسكريّون” (المبدأ 29) ولكن ذلك لا يمنعنا من القول أن ! قضاءنا سواء كان عسكريا أو مدنيا ( لا فرق عندنا في ذلك ).
مسكين قضاء ما قبل الثورة فقد كان في خدمة الطاغية يوظفه لتبرئة المحتالين وقطاع الطرق وتجريم المناضلين ! . مسكين قضاء ما بعد الثورة وقد تحول في كثير من الأحيان إلى ألعوبة في يد السياسيين.! كلهم يطالبون باستقلاليته، ولكنهم يعملون بلا حياء على التحكم فيه وتوجيهه بشتى الطرق . مسكين قضاء ما بعد 25 جويلية فلقد أصبح قضاء تابعا بالكلية في جانبيه العسكري والمدني . حتى ذلك الهامش من الاستقلالية الذي أحرزه بعد الثورة مع بداية تركيز مؤسساته وخاصة المجلس الأعلى للقضاء المنتخب ديمقراطيا ومتنوع التركيبة تلاشى بالتمام في ظل حكم فردي متمدد يوما بعد يوما آل إلى تفكيك السلطة القضائية وهدم بنائها وإلغاء وظيفتها بالإضافة إلى إرهاب القضاة بواسطة سيف الإعفاء المسلط عليهم وما خلفه من شغورات فسحت المجال واسعا أمام وزيرة العدل للضغط على القضاة ووضع يدها على النيابة العمومية خارج إطار القانون . كل ذلك في ظل الانتقاص من موقع السلطة القضائية في دستور 2022 اذ تدحرجت من وضع السلطة إلى وضع الوظيفة التابعة للسلطة التنفيذية بغاية إضعاف دور القضاء في حماية الحقوق والحريات .بحسب ما ورد في لائحة الجلسة العامة لجمعية القضاة المنعقدة في 25 ديسمبر 2022.