شعبوية بلا شعب: الوجه النيوليبرالي لقيس سعيّد

أخيرًا، حققت تونس في عهد الرئيس قيس سعيّد رقمًا قياسيًا يعيدها إلى خارطة العالم بوصفها بلدًا رائدًا، عندما امتنع حوالي 90% من مجموع الناخبين عن الذهاب إلى مراكز الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات التشريعية التي جرت في 27 كانون الثاني الماضي. أي أن البرلمان الجديد سيمنح نفسه سلطة التشريع في البلاد لخمس سنوات قادمة استنادًا إلى أصوات 10% فقط من الناخبين. نتيجة جاءت لتؤكد حالة الامتناع أو اللامبالاة التي تعاملت بها قطاعات واسعة من الشعب مع الاستحقاقات الانتخابية التي نظمها الرئيس سعيّد بعد انقلابه الدستوري في تموز 2021، بدايةً من الاستفتاء على الدستور الجديد، والذي لم يصوت لإقراره سوى 30% من الناخبين وصولًا إلى الدورة الأولى والثانية من الاستحقاق التشريعي الأخير. بموازاة هذا المسار الانتخابي، تعاني البلاد من تسارع حالة الانهيار الاقتصادي، التي لا يجد سعيّد في مواجهتها سوى إعادة إنتاج حلول الماضي، من خلال مواصلة السير في طريق الاستدانة الخارجية في مقابل مواصلة تفكيك هياكل دولة الرعاية الاجتماعية.

تروم هذه المقالة قراءة نتائج الانتخابات التونسية على نحو أكثر عمقًا من مجرد قراءة سياسية تحاول إثبات «لاشعبية» الرئيس سعيّد ونظامه الناشئ، وتسعى إلى تحليل النهج الاقتصادي للرئيس -إذا فرضنا جدلًا أنه يملك تصورًا واضحًا في هذا المجال- باعتبار الانتخابات خطوة مركزية في هذا النهج الذي سيقع بيانه في الأسفل.

تحت خطّ الشرعية

تكشف نسبة المشاركة في الانتخابات، دون مواربةٍ، تراجع شعبية الرئيس سعيّد قياسًا لما كانت عليه لحظة الانقلاب، وتاليًا اهتراء شرعيته، مع أن هذه الشعبية لم تتراجع نتيجة زيادة معارضيه، بل في تراجعت في اتجاه لامبالاة سياسية أصبحت سمةً بارزةً لدى التونسيين. بشكل عامٍ، تقوم أنظمة الشعبوية الاستبدادية على عدد من الخصائص، يظهر معظمها في نظام سعيّد، ومن أبرزها الرابط الذي لا ينفصم بين الدولة وحاكمها؛ واندماج بين المجالين العام والخاص؛ وعلاقات الولاء القائمة على أساس الخوف والقرابة لا الأيديولوجية أو السردية السياسية؛ وكذلك عدم وجود ضوابط وتوازنات إزاء سلطة القائد؛ وازدراء التعددية السياسية؛ إلى جانب حالة الغموض التي تحيط بالسلطة لدرجة عدم القدرة على التنبؤ بسلوك النظام. ومع ذلك، تسعى هذه الأنظمة الشعبوية، عكس الأنظمة الشمولية الواضحة، إلى الاحتفاظ بواجهة ديمقراطية، من خلال المحافظة على جميع المؤسسات الرسمية الديمقراطيات، بما في ذلك الانتخابات التنافسية، كما يُسمح ببعض المعارضة من أجل الحفاظ على وهم الديمقراطية وإعطاء الحكام قشرة شرعية. في هذا السياق من بناء أوهام الديمقراطية -والتي سيأتي لاحقًا بيان دوافعها- كان الرئيس التونسي حريصًا على إجراء استحقاق انتخابي جاءت نتائجه عكس ما كان يصبو إليه.

إن النزوع الاستبدادي الذي يبديه سعيّد ونظامه، والذي لا يبدو مكتمل المعالم حتى الآن، لا يقوم حصرًا على احتكار القوة، من خلال السيطرة على أجهزة الدولة الصلبة، ولكنه كان منذ انقلاب تموز 2021 قائمًا على ثلاثة أبعاد: القوة والشرعية والاستيعاب. وهو ثالوث كلاسيكي لدى الأنظمة الشعبوية، وضع له الباحث الألماني يوهانس جيرشوفسكي إطارًا تحليليًا في ورقة نشرها عام 2012.[1] يرى جيرشوفسكي أن القوة، بوصفها استخدام العنف الجسدي لمنع سلوك سياسي معين أو أنشطة معينة، لا تكفي وحدها لبناء حالة استقرار للنظام، بل تحتاج إلى الشرعية، باعتبارها العملية التي تسعى الدولة من خلالها لحيازة رضى المحكومين، وكذلك الاستيعاب بما هو قدرة النظام على ربط مجموعات مهمة استراتيجيًا (مراكز قوة مالية وسياسية واجتماعية) بالنخبة الحاكمة.

وبهذا المعنى، فإن الانتخابات والإجراءات الديمقراطية الشكلية الأخرى مهمة للأنظمة الشعبوية: فهي تساعد على إنتاج شرعية وطنية ودولية من خلال تقديم النظام على أنه نابع من الإرادة الشعبية. استنادًا إلى هذا التحليل، يبدو أن الرئيس التونسي قد فقد ركيزةً مهمةً وهي الشرعية، ولم يُقيّم ركيزةً أشد أهمية وهي الاستيعاب، حيث ما زال عاجزًا عن بناء علاقات ولاء مع مجموعات ذات وزن سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي في البلاد. وعليه، لم يبق له غير ركيزة القوة، من خلال الولاء الذي ما زالت تدين له به المؤسستان الأمنية والعسكرية، لذلك اختار أن يلقي كلمةً من داخل ثكنة العوينة -مقر قيادة الحرس الوطني، القوة شبه العسكرية الأكثر تنظيمًا في البلاد- يومًا واحدًا بعد ظهور نتائج الانتخابات.

في مواجهة هذه النتائج قال الرئيس سعيّد مفسرًا «إن العزوف عن التصويت في الدورتين الأولى والثانية للانتخابات التشريعية المبكرة هو رد فعل، فضلًا عن أن هذه الانتخابات لا يوجد فيها المال السياسي الفاسد، والأرقام يجب أن تُقرأ بشكل مختلف (..) نقرأ الأرقام بنسبة العزوف لا بنسبة الإقبال على التصويت، لأن التونسيين باتوا يرون البرلمان في السنوات الماضية مؤسسة عبثت بالدولة، لا مؤسسة داخل الدولة».

هذا التبرير غير المعترف بالواقع، يؤكد فرضية ذهاب الرئيس إلى ترسيخ مجلس النواب في الدستور الجديد الذي كتبه منفردًا، وتاليًا إلى الانتخابات التشريعية، مجبرًا. تحت إكراهات القوى المانحة التي تريد شكلًا تمثيليًا كيْ تقدم له قرض صندوق النقد الدولي. حيث يقوم مشروع قيس سعيّد أساسًا على معاداة الديمقراطية التمثيلية وإقامة ديمقراطية قاعدية تقوم على المجالس المحلية وتصعيد النواب من القاعدة إلى القمة. لذلك، حاول استعمال نسبة المشاركة الضعيفة حجةً على صواب رأيه وللتأكيد على أن الشعب سئم البرلمانات. محققًا أهدافًا ثلاثة: أولًا رضى المانحين الغربيين من خلال إقامة انتخابات شكلية لعله يظفر بالقرض الموعود، وثانيًا التأكيد على وجهة نظره في نهاية الديمقراطية التمثيلية، وثالثًا ترسيخ نفسه حاكمًا دون منافس، حتى وإن كان هذا المنافس برلمانًا بلا صلاحيات يضم أغلبية مواليةً له.

السيادة شعارًا والتبعية سلوكًا

شكل الاستحقاق الانتخابي الأخير جزءًا من خارطة طريق أعلن الرئيس التونسي عنها نهاية العام 2021، أشهرًا قليلةً بعد انقلابه الدستوري. جاءت خارطة الطريق ضمن حزمةٍ من الشروط الغربية للموافقة على الشروع في التفاوض بين حكومة الرئيس سعيّد وصندوق النقد الدولي. في تشرين الثاني 2021 بدأت الحكومة في عرض برنامجها «للإصلاح الاقتصادي» على إدارة الصندوق، وتحت ضغوط غربية، وأمريكية بالأساس، كان الرئيس مجبرًا على وضع خارطة طريق للمرحلة الانتقالية ومجبرًا على أن تضم هذه الخارطة محطاتٍ لـ«استعادة النظام الديمقراطي التمثيلي» وأساسًا البرلمان.

يعتبر قيس سعيّد أكثر رئيس في تاريخ تونس المعاصر رفع شعارات السيادة الوطنية، والانحياز للشعب والفقراء، ونقد النخب الحاكمة، ماليًا وسياسيًا، بل وشارك خلال السنوات العشر الماضية في الكثير من الاحتجاجات الشعبية ضد السياسات الاقتصادية للائتلاف الحاكم بقيادة حركة النهضة. لكن هذا الرفض تحول بعد صعوده السلطة إلى عكسه. حيث أصبح خطابه أكثر تمركزًا حول الدولة، فهو لا يفوت فرصةً لتوعد كل من «يتطاول على الدولة ورموزها»، فيما لم يختلف سلوكه القمعي تجاه الحركات الاجتماعية عن أسلافه. ورغم أنه اقترح بديلًا للسياسة التقليدية في حملته الانتخابية، إلا أنه لم يقوَ على الأرجح أن يهز الأسس التي بُنيت عليها السياسات الليبرالية الجديدة في تونس. بدلًا من ذلك، ذهب بعيدًا في هذا النهج، ساعيًا إلى تفكيك ما تبقى من هياكل دولة الرعاية الاجتماعية التي قام عليها النظام السياسي منذ الاستقلال عام 1956.

في مواجهة الأزمة الاقتصادية القائمة، والتي ورثها عن سلفه حركة النهضة، حصر سعيّد حلوله في إعادة إنتاج سياسات الاستدانة الخارجية، من خلال برنامج «إصلاح» طرحته حكومته مدفوعًا بتوصيات صندوق النقد الدولي، يستند إلى وصفة نيوليبرالية خالصة أساسها: التخفيض في فاتورة رواتب الخدمة المدنية (16% من الناتج المحلي الإجمالي، 650 ألف موظف مدني)، ورفع الدعم عن السلع الأساسية، والزيادات المنتظمة في أسعار المحروقات، بهدف مواءمة الأسعار المحلية مع الأسعار العالمية للنفط والغاز الطبيعي، إلى جانب خصخصة عدد من مؤسسات القطاع العام. وقد شرعت حكومة سعيّد في تنفيذ هذه الوصفة قبل حتى أن يوافق الصندوق على منح تونس تمويلًا، لن يتجاوز ملياري دولار، بحسب اتفاق أولي عُقد بين الطرفين في تشرين الأول الماضي. وتكشف أرقام الموازنة العامة لعام 2023 عن خفض نفقات الدعم بنسبة 26.4% مقارنةً بسنة 2022 وذلك لأول مرة في تاريخ البلاد، وكذلك خفضت الحكومة نفقات التدخل (التحويلات الاجتماعية لفائدة الطبقات الضعيفة) بنسبة 8%، الأمر الذي سيزيد من تدهور أوضاع الطبقة الوسطى والفقيرة. كما جمّدت الحكومة عمليات التوظيف في الخدمة المدينة للتحكم في كتلة الأجور، وذلك سيؤدي إلى ضعف الخدمات العامة المقدمة للمواطنين، لا سيما في القطاعات الأكثر توظيفًا كالتعليم العام والصحة العمومية والنقل العمومي.

خلافًا للتحليلات التي تتبناها الصحافة الغربية حول قيس سعيّد من كونه «شعبويًا يساريًا»، حتى وصل الأمر بمراسل مجلة لوبوان الفرنسية في تونس إلى تشبيهه بـ«شافيز»، يكشف السلوك السياسي للرئيس التونسي عن وجه نيو ليبرالي صريح. تعود جذور هذا النهج التحليلي الغربي إلى ورقة[2] نشرها كل من رودي دورنبوش وسيباستيان إدواردز، عام 1990، حول النمط الاقتصادي الذي سارت عليها أنظمة أميركا اللاتينية ذات النزعة اليسارية، وصاغا معًا مصطلحًا جديدًا لتوصيف هذه السياسات أصبح لاحقًا شائعًا في الدراسات الاجتماعية السائدة وهو: «شعبوية الاقتصاد الكلي». يقوم هذا الافتراض على أن زيادة الإنفاق الحكومي والأجور الحقيقية بطريقة غير مستدامة تؤدي إلى التضخم، ثم الركود التضخمي وفي النهاية الانهيار الاقتصادي الذي يؤدي إلى انخفاض الأجور الحقيقية. وقاما بعد عام بنشر كتاب كامل عن الموضوع حمل عنوان «الاقتصاد الكلي للشعبوية في أميركا اللاتينية».

كان منهج الكتاب قائمًا على توصيف «شعبوي» للأنظمة اليسارية، من وجهة نظر اقتصادية نيوليبرالية، من خلال تعريف شعبوية الاقتصاد الكلي على أنها «نهج للاقتصاد يركز على النمو وتوزيع الدخل ويقلل من التركيز على مخاطر تمويل التضخم والعجز والقيود الخارجية». لكن المفارقة هنا هي في أن الأزمة الاقتصادية التونسية كانت من نتاج فترة الديمقراطية التمثيلية وليست نتاج السياسات الشعبوية للرئيس قيس سعيّد، أي أن الدورة التي شرحها الباحثان ولدت في تونس خلال فترة «الحكم الديمقراطي التمثيلي»، على عكس النهج الذي يتبناه الرئيس سعيّد. فقد شهدت تونس بعد ثورة 2011 زيادة كبيرة في الإنفاق العام وزيادة في الأجور الحقيقية والتوظيف، ثم دخلنا في تغطية النقص في الإنتاج عن طريق الواردات، ما أدى إلى انخفاض الاحتياطات وارتفاع حالة الاستدانة الخارجية على نحو غير مسبوق، حتى وصلنا إلى الوضع الراهن الذي عمّقته الأزمة الصحية (2021-2022) ثم الحرب الأوكرانية والارتفاع الهائل في نسبة التضخم. هذه المفارقة تكشف بوضوح، عن قصور هذه المقاربة في تفسير السياسات الاقتصادية للشعبوية. وما يعزز هذا القصور، الصورة المعكوسة التي عليها السياسات الاقتصادية للشعبوية الحاكمة اليوم في البلاد، والتي قلصت الإنفاق العام.

في المحصلة، يبدو قيس سعيّد مسجونًا بين خيارين: الأول، الذهاب حتى النهاية في سياساته النيوليبرالية محاطًا بالدعم الغربي، سياسيًا واقتصاديًا، ومستفيدًا من ريع الموقع الجغرافي للبلاد بوصفها حارسًا جنوبيًا للضفة الأوروبية للبحر المتوسط، فيما يتعلق بقضايا الهجرة غير النظامية والأمن، وهذا الخيار سيدفع ثمنه شعبيًا وربما يقود إلى تعمق التناقضات بين النظام وأغلبية المحكومين، مما سيؤدي إلى هبات شعبية ربما تتحول إلى انتفاضة أو حتى ثورة. وخيار ثانٍ يرفض فيه شروط المؤسسات الغربية المانحة، وسيكون فيه عاجزًا عن تدبير حلول للأزمة المالية الخانقة، مما سيعمّق الأوضاع الاجتماعية أكثر فأكثر، أو ربما يدفع إلى البحث عن شركاء جُدد خارج الكون الغربي المُهيمن.


الهوامش

[1] أدولفو كامينسكي: السيرة الشبحية لأشهر مزوّر في القرن العشرين

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات