الاستقصاء الصحفي يقوم على schéma بسيط لكن تنفيذه يتطلب نزاهة وكفاءة عاليتين، يبدأ بالحصول على معلومات اولية بلا أدلة حول شيء غير متوقع او مخالف لما يعرفه الرأي العام، شيء يتم إخفاؤه وحمايته بالقوة، تقترح فرضية مثلا انه تم اختراق مؤسسات الامن وتوريطها في الارهاب، الصحفي يملك الأدوات التي تمكنه من إثبات الفرضية بالأدلة القاطعة النزيهة او نفيها، النزاهة تقتضي انه حين نعجز عن إثبات الفرضية لأي سبب، نتوقف عن لي عنق الواقع لتطويعه، النزاهة هي ان لا نبدأ الاستقصاء بثوابت او مصادرات او قناعات سياسية او ايديولوجية،
حسنا، نحن أجيال من الصحفيين التونسيين مارسنا صحافة التحقيق وفق المنظور الفرنكفوني نظرا لميراثنا المهني وتكوينا الأكاديمي الى ان انفتحنا على الصحافة الانقلوسكسونية واجنسها مثل القصة الخبرية والاستقصاء الذي يعتبر اعلى مراتب العمل الصحفي الصناعي وحكرا على نخبة متميزة من الصحفين ممن اتقنوا كل الاجناس الصحفية الاخرى لتوظيفها في الاستقصاء،
نأتي الى تونس الآن: لماذا، رغم عشرات دورات التكوين لم نجح في اطلاق صحافة الاستقصاء؟ لان المحتوى الصحفي منذ زمن بعيد ليس بيد الصحفي، بل بيد صاحب المؤسسة، وهو قليلا ما يكون صحفيا، توجههه المصالح والتحالفات والربح، وأي عمل استقصائي هو ضد قوى متنفذة وإلا لما احتاجت الحقيقة الى من يستقصيها، لنأخذ مثلا قضية المنيهلة، اؤكد لكم ان عددا كبيرا من الصحفيين يعرفون الموضوع ومنهم من أراني ملفات البحث، حيث "الفرضية الفضيحة" تنادي إني هنا وكان ثمة "راس خيط" يمكن الامساك به لكشف الحقائق، لكني اذكر ايضا صاحب مؤسسة اعلامية قال عن زميل طرح الموضوع: "مهبول، يحب يطلع النهضة بريئة؟"، وكثير من الزملاء يخافون من الشيطنة وفقدان العمل اذا ما ساروا ضد التيار، ثم: اذا رفضوا نشره وأطردوه، هل سينشر العمل على شريطة الملابس؟ ثم من أين سيعيش وينفق الصحفي طيلة أسابيع او اشهر العمل؟
الصحفيون التونسيون قادرون على التميز، لذلك ينجحون خارج البلد، وأنا بعد 34 عاما من الصحافة منها ربع قرن في العمل الميداني، وأربعة اعوام في تكوين الزملاء في صحافة الاستقصاء، أؤكد لكم ان العيب في مؤسسات الاعلام حيث الصحفي هو الحلقة الأضعف،
ذات يوم طالبنا بفصل الإدارة عن التحرير تحت شعار: "صاحب المؤسسة يحب يربح، ونحن نعرف كيف"، قال لنا أحد المسولين: هذا بالدبابات، قال فصل قال؟ تحبوا تخربولي بيتي؟" لأن الصحافة في تونس ليست شغل صحفيين، وهذا يعيدنا الى موقف الزميل الحبيب الغريبي "كون صيد وكولني" غير ذلك، سيظل التونسيون مستهلكين سلبيين لإعلام غيرهم، والسلام،