" وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ"
)الأنعام 28 )
جرت في تونس اوّل انتخابات تشريعية في إطار دستور 2022 و انتظمت في دورتين بالاقتراع على الأفراد يومي 17 ديسمبر 2022 و 29 جانفي 2023 و قاطعتها المعارضة لاسيما التي لا تعترف بمسار 25 جويلية و تعتبره انقلابا على دستور 2014 بينما دعت الى المشاركة فيها أحزاب الموالاة المتمسكة بهذا المسار و التي رشحت دون المشاركة العلنية و بصفة فردية أشخاصا موالين لها على أمل أن تكون ممثلة في البرلمان القادم. و رغم دعوة هذه الأحزاب الى المشاركة فيها بكثافة إلاّ ان الغالية العظمى من الناخبين لم يتوجوا الى مكاتب الاقتراع وفلم تتجاوز نسبة المشاركة 11 في المائة افي كلتا الدورتين.
وكثيرا ما فسر هذا العزوف على انه ظاهرة عالمية مرتبطة بأزمة الديمقراطية في العالم حتى في أكثر الديمقراطيات رسوخا . عبر عن ذلك مثقفونا [1] وسياسيون تونسيون دون ان يستند كلامهم إلى معطى واقعي او شواهد رقمية . كان التفسير اقرب إلى تبرير هذا العزوف أكثر من محاولة فهم أسبابه الداخلية . والواقع ان هذا التفسير بعيد عن الواقع مخالف لحقيقة ما يسمى بازمة الديمقراطية في العالم . فلئن كانت هذه الازمة موجودة في كثير من البلدان انكب الفلاسفة وعلماء السياسة على فهمها وتصور الحلول لها غير انها نسبية وتختلف من بلد إلى اخر مما يجعل التعميم أشبه بالتعمية والخديعة السياسية ولتوضيح ذلك سوف نقدم بعض المعطيات العالمية حول نسبة المشاركة في الانتخابات سواء كانت تشريعية او رئاسية وسوف تستند شواهدنا الى تجارب أكثر الديمقراطية عراقة.
1) العزوف عن الانتخابات التشريعية ليس ظاهرة عالمية
ان تكييف ضعف المشاركة في الانتخابات التشريعية بأنه عزوف في اطار ظاهرة عالمية يعني ان هذا الضعف عام في جميع الدول خاصة منها التي اوّلا تتبنّى الديمقراطية التمثيلية التعددية التي يعتبرها عبيد البريكي ازمة عالمية و لم تعد تستقطب الشباب و ثانيا يقوم نظامها على انتخابات حرة نتائجها غير معلومة مسبقا مثل دول العالم الغربي لذا لا يجوز قياس ضآلة حجم المشاركة في تشريعية ديسمبر2022/جانفي 2023 التي جرت في تونس على حجم المشاركة في التشريعيات في هذه الدول التي لا يعرف بعضها تقلصا في حجم المشاركة في الانتخابات التشريعية مثل الدانمارك و على هذا الاساس لا يمكن الحديث عن ظاهرة عالمية ثم ان الدول التي عرفت ضعفا نسبيا في حجم المشاركة لم يتجاوز ثلث الناخبين مثل فرنسا و اسبانيا التي شهدت خلال انتخاباتها التشريعية الاخيرة ارتفاعا في حجم المشاركة وشهدت ايضا انتخابات البرلمان الأوروبي سنة 2019 ارتفاعا ملحوظا في حجم المشاركة.
أ) فرنسا
لئن ضعفت في فرنسا نسبة الاقبال على التشريعية منذ 2002 فإنها ارتفعت في تشريعية جوان 2022 فقد نشرت وزارة الداخيلة يوم 19جوان 2022 بمناسبة الدور الثاني لتشريعية 2022 نصا يستفاد منه ان نسبة المشاركة في التشريعية التي جرت منذ 2002 تتراوح بين 35.33 و 49.52 في المائة و انها سجلت ارتفاعا ملحوظا خلال التشريعية الاخيرة من 35.33 سنة 2017 الى 39.42 سنة2022.
*تشريعية 2022 :نسبة المشاركة على الساعة الخامسة مساء:
– يوم 12 جوان 2022 الدور الاول 39.42
– يوم 19 جوان 2022 الدور الثاني38.11
* تشريعية 2017:الدور الثاني 35.33
*تشريعية 2012 :الدور الثاني:46.42
* تشريعية 2007:الدور الثاني:49.52
* تشريعية 2002: الدور الثاني:46.83
ب) إسبانيا
في إسبانيا ارتفع حجم المشاركة في التشريعية فقد كانت نسبته 66.5 سنة 2016 وارتفعت الى 71.08 سنة 2019 حسب معطيات وزارة الداخلي.
ج) ايطاليا
في إيطاليا جرت يوم 25 سبتمبر 2022 تشريعية سابقة لأوانها بلغ حجم عدم الاقبال عليها 36.1 في المائة اي اقبل عليها 63.9 بالمائة.
د) الدانمارك
تعوّد الناخبون في الدانمارك على الاقبال بكثافة على الانتخابات فقد بلغت نسبة المشاركة 84.1 في التشريعية التي جرت يوم 1 نوفمبر 2022.
ه)سلوفكيا
في جمهورية سلوفاكيا بلغت نسبة المشاركة 65.8 في المائة في الانتخابات التشريعية فيفري 2020.
فقد نشر راديو براغ الدولي يوم 9 أكتوبر 2021 نصا في موقعه حول الانتخابات التشريعية ذكر فيه انه تبعا للنتائج الاولية قد بلغت 65 في المائة نسبة المشاركة فيها و انها بلغت 70 في المائة في بعض الدوائر و انها ارتفعت عما كانت عليه في انتخابات 2017 حيث كانت 60.84 في المائة.
و) المملكة المتحدة
بلغت نسبة المشاركة 67.3 في الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها سنة 2019 وفاز فيا حزب المحافظين بالأغلبية المطلقة.
ز) البرلمان الاوربي
افاد بلاغ صحفي عن البرلمان الأوروبي ان 42.6 هي نسبة المشاركة في انتخابات أعضائه سنة 2014 و انها ارتفعت الى 50.66 في انتخابات سنة 2019 بزيادة 8.06 نقاط و قد كان الارتفاع هاما في بولونيا و رومانيا و النمسا و المجر و أنّه سجل حتى في البلدان التي تعرف عادة مشاركة ضعيفة في الانتخابات الاوروبية مثل سلوفاكيا و تشيكيا و ان الدول التي سجلت سنة 2019 انخفاضا فانه لم يتجاوز في كل واحدة منها ثلاثة نقاط.
و بالاطلاع على هذا البلاغ الصحفي نلاحظ ان نسبة المشاركة في ارتفاع في عدد من الدول و ان المشاركة الضعيفة سجّلت في دولتين سلوفاكيا و تشيكيا و كانتا متحدتين في دولة واحدة هي تشيكوسلوفاكيا التي كانت موالية للمعسكر الشرقي الموالي للاتحاد السوفياتي و لم يكن نظامها السياسي يقوم على الديمقراطية التمثيلية ثم حين انضمت إلى المعسكر الغربي انقسمت الى دولتين بينما حافظت على وحدتها مثيلاتها بولونيا و رومانيا و المجر و قد يكون انقسامها إلى دولتين من احد أسباب ضعف المشاركة فيها في انتخابات البرلمان الأوروبي بينما نسبة المشاركة مرتفعة في تشريعية كل واحدة منهما و تفوق ستين في المائة.
و أفاد نفس البلاغ الصحفي ارتفاع حجم المشاركة لدى كل فئات المجتمع و كان اكبر لدى الشباب و لدى الناخبين لأوّل مرة وفي صفوف من هم فوق ال 55 عاما و اكبر:
– 14 نقطة لدى من عمرهم دون 25 عاما
– 12 نقطة لدى من عمرهم بين 25 و 39 عاما
– ثلاثة نقاط لدى من عمرهم 55 عاما و اكبر
2) برلمان 2023 : هل تعود حليمة …؟
انطلاقا من هذه المقارنات التي تكذب الزعم بان نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية في تونس لسنة 2022 هي نتاج لازمة عالمية تعرفها الديمقراطية التمثيلة ماذا يمكن أن نستخلص ؟
أولا : ان بعض الدول عرفت انخفاضا في المشاركة في الانتخابات التشريعية إلاّ أن هذا الانخفاض لم ينزل تحت نسبة ثلاثين في المائة ثم استعادت المشاركة أنفاسها في هذه الدول مثل فرنسا التي ارتفعت فيها نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية 2022 مقارنة مع سابقاتها كما لم يعمّ انخفاض المشاركة في الانتخابات التشريعية كل الدول فبعضها حافظ على نسب مرتفعة تتجاوز السبعين في المائة.
ثانيا : ان العزوف عن الانتخابات ليس له من معنى سوى مقاطعتها مهما كانت الأسباب الدافعة له سواء كانت طعنا في شرعيتها او عدم الإيمان بجدواها.
ثالثا : إن نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية لدينا سواء اقتصر نظرنا على تونس أو قارناها بنسب المشاركة في أي بلد آخر في العالم تؤدي بالضرورة بسبب ضعفها الذي لا يمكن أن نجد له مثيلا في العالم إلى الطعن في شرعية البرلمان الذي يعقد أولى جلساته اليوم 13 مارس 2013 إذ انه لن يمثل أكثر من تونسي واحد على 10 هذا بالإضافة إلا أن النصوص المنظمة للانتخابات وعلى رأسها القانون الانتخابي لا تعبر عن أي إرادة مجتمعية أو توافق سياسي بين كل المتدخلين في الشأن الانتخابي من أحزاب ومنظمات فقد انفردت السلطة التنفيذية وعلى رأسها رئيس الجمهورية بصياغتها .
أخيرا لا أحد يدري على وجه الدقة كيف ستكون صورة البرلمان الجديد بالمقارنة مع البرلمان السابق سواء المنبثق عن انتخابات 2014 أو انتخابات 2019 مرورا بتجربة المجلس الوطني التأسيسي، ولكن كثيرا من الشواهد تبعث على الظن انه سيكون شبيها ببرلمانات ما قبل الثورة «انضباطا » وتقيدا بمواقف السلطة التنفيذية ووجهة نظرها . وفي كل الحالات ودون انتظار القانون الداخلي للمجلس فقد جاء دستور 2022 بما يجعل اي محاولة للخروج عن الصف أو التشويش أو العصيان تجابه بالملاحقة القضائية فضلا عن سحب الثقة، السيف المعلق على رقبة أي نائب تسول له نفسه أن يخرج عن الصف ..[2]
الهوامش
[1] انظر مقالنا « تبرير العبث الانتخابي في تونس بواسطة الاستشهاد بغيرنا » : عبيد البريكي ولطفي عيسى نموذجا « اسطرلاب» 8 فيفري 2023.
[2] للتضييق على النائب فان ما يأتيه حتى تحت قبة البرلمان ليس كله مشمولا بالحصانة بل يستثنى منها عملا بأحكام الفصل 66 من دستور 2022الجرائم المرتكبة داخل المجلس مثل القذف و الثلب و تبادل العنف. كما يستثنى منها تعطيل السير العادي لأعمال المجلس ..وقد يكون الفصل 66 رد فعل من قيس سعيد على ما كان يجري في البرلمان المنحل من تعطيل لأعماله و لاسيما تعطيل جلساته العامة و تبادل العنف البدني و اللفظي بين النواب أحيانا وبطبيعة الحال ينضاف إلى كل هذا العمل التضييقي على « الوظيفة التشريعية » سحب الوكالة.