نثبّت أقدامنا على الأرض، نراقب أزمة الانقلاب ولا نروّج لسقوطه غدًا، لكننا نرى رأي العين تخبُّطه بحثًا عن مصروف العائلة التونسية في رمضان، إذ نربط بسهم مدرسي بين مكالمة هاتفية في غير سياق مع أمير دولة قطر، مع حديث شيّق عن العلاقات التاريخية بين الشعبَين الشقيقَين، وبين التحرش بحكومة ليبيا بإثارة مسألة حقول النفط البحرية (المسماة بـ"الجرف القاري")، وبين الفزع الذي ظهر على وجه رئيسة حكومة إيطاليا وهي تحاول نجدة المنقلب بفتح حنفية القروض من البنك الدولي.
ونضيف إلى ذلك فشل اللجنة المكلفة من قبل الانقلاب بالصلح الجزائي، لنعرف بأقل القليل من الذكاء أن رواتب مارس/ آذار وأبريل/ نيسان غير موجودة. من أين ستُدفع؟ خاصة وقد انضاف إلى أعبائها رواتب برلمان جديد أغلب نوابه دخلوا من أجل رواتب مجزية، وفي ظنهم أنهم يديرون دولة ذات سيادة. لنفصّل.
لجنة الصلح الجزائي فشلت
عاش المنقلب منذ ما قبل انتخابه بوهم كبير أن طبقة رأس المال تتهرّب من دفع ضرائبها، وقد أنفق خطابات كثيرة حول كدس من المال مهمل يكفي أن يستعيده ليستعيد قوة الدولة على هذه الطبقة، قام وحده بتكليف لجنة بمرسوم، ووضع على رأسها من ظنه خبير جباية، وبعد شهور طويلة من الانتظار والأمل اكتشف وهمه، فعزل رئيس اللجنة ووبّخ الأعضاء الفاشلين، ولا ندري ما إذا كان سيعيّن له خلفًا أم يحل اللجنة التي لم تجد أموالًا لتجمعها.
أليس هناك تهرب ضريبي؟ بلى، لكن أسلوب استعادة الأموال كان غير مجدٍ. المتهربون من الضريبة كانوا دومًا أقوى من الدولة وليس فقط من رئيسها، والتهرب لعبتهم المفضّلة، هذه طريق مسدودة في وجه الرئيس.
مسألة الصلح الجزائي أخفت قبل طرحها مسألة استعادة الأموال المنهوبة، والتي اتخذها المنقلب وسيلة دعائية واعدًا الشعب بنهر من المال، فلم يسعَ في إثرها ولو بمقدار خطوة واحدة.
تلك أموال/ مواضيع للدعاية، وقد انتهت أزمنة البحث عنها طبقًا للقوانين المالية الأوروبية، التي تعرف أنها أموال فاسدة منهوبة من شعب مفقر، لكنها تتظاهر بالبراءة وتبقى الأموال في بنوكها.
التحرش بحكومة طرابلس
يبدو أن صورة ليبيا في ذهن الرئيس هي نفس صورة بُلدان الخليج في ذهن السيسي. الرز مكدّس هناك ويكفي إثارة مسألة خلافية قديمة لترتبك ليبيا وتدفع اتقاء لشرّ محدق، لذلك رمى المنقلب في النقاش مسألة الجرف القاري، وهي منطقة حقول نفط بحرية كانت محل خلاف بين البلدَين منذ الستينيات، وقد تمَّ اللجوء في حلّها إلى التحكيم الدولي (محكمة لاهاي)، وفصلت النزاع منذ السبعينيات لصالح ليبيا واستقرَّ الأمر على ذلك.
أخرج المنقلب الأمر من أرشيف مغلق، فانتهى إلى أزمة دبلوماسية مع ليبيا ولم يحصّل شيئًا من الرز الليبي، بل ربما أغلق على نفسه باب مساعدات عينية كالتي منَّ بها الليبيون عليه منذ شهر فبراير/ شباط.
والأدهى أن التونسيين الذين يشتغلون بالتراب الليبي يتوجّسون خيفة أن يتمَّ طردهم على طريقة القذافي، ليزيد طين الانقلاب بلة بأفواج من العاطلين عن العمل، خاصة في الجنوب الذي دمّرته سنوات متتالية من الجفاف القاسي.
انقطاع المَدَد الجزائري
لم يعد خافيًا أن النظام الجزائري أسند الانقلاب ودعمه ماليًّا، وهو أمر لم يتضح لبقية التونسيين إلا متأخّرًا، إلا أن العلاقة فَتَرَت بعد تهريب الصحفية الجزائرية إلى فرنسا، وهي المطلوبة من النظام الجزائري، حتى ليظنَّ أن هروب الصحفية إلى تونس ثم تهريبها كان عملية استخباراتية متقنة، لتكون ذريعة للنظام الجزائري للتخلُّص من عبء ثقيل اسمه انقلاب تونس. لقد تخلصت الجزائر من صحفية مزعجة ومن عبء مساعدة تونس.
نراقب برود العلاقة بين الرئيسَين، فلا مكالمات ودّية، ولا شاحنات سلع تدخل من الحدود الغربية، وقد كان سجن مواطنين تونسيين بالجزائر بتهم تهريب مواد غذائية قد أحدث شرخًا كبيرًا ومنع التواصل، ولم يفد المنقلب سكوته عن الأمر وتجاهل معاناة مواطنيه.
لم يفد النظام في هذه المرحلة تحمّسه للحل الجزائري لمسألة الصحراء الغربية باستقبال ممثل جبهة البوليساريو، وهو موضوع الخلاف مع دولة المغرب التي تعتبَر العلاقة معها الآن شبه منقطعة، وحتى الأشقاء في موريتانيا لم يعد لديهم سمك مجمّد لإرساله إلى تونس في رمضان.
حدود البلد الغربية والشرقية شبه مغلقة، فلا مَدَد ولا تواصل، ولا نعلم بعد ما إذا كانت المكالمة مع أمير قطر قد وفّرت للمنقلب رواتب الشهرَين الجاريَين، وقد توفّرت معلومات سابقة عن نفور القطريين من الانقلاب وميلهم إلى تجاهله، وراجت إشاعات غير يقينية عن نية القطريين سحب استثماراتهم ووديعتهم أو تلميحهم إلى ذلك، وسنقول إنها إشاعات مغرضة يروّجها الإسلاميون (أصدقاء قطر) ونراقب المستقبل.
الفزع الإيطالي الكاشف
تحركت رئيسة اليمين الإيطالي الحاكم مستعيدة التهديد بـ"الإرهاب الإسلامي"، لتمارس ضغطًا عاليًا على الحكومات الأوروبية من أجل تسريح الدعم الدولي للانقلاب، وعينها على موجات الهجرة غير القانونية المتوقعة في الصيف عند هدوء البحر بعد عواصف الشتاء. المهم عندها أن تتوفر الرواتب للنظام ليقيها من خوفها.
غني عن القول أن رئيسة اليمين لم تتذكر "الإرهاب الإسلامي" وهي تعقد صفقات الغاز والنفط مع حكومة طرابلس، التي يسندها تيار إسلامي واسع في ليبيا. فالتيارات الإسلامية تصبح وديعة إذا تعلق الأمر بعقود الطاقة، لكنها تصير مصدرًا للإرهاب عندما يتعلق الأمر بالهجرة السرّية. وهذا نفاق قديم يُستعاد عند الحاجة.
تسعى حكومة إيطاليا إلى نجدة المنقلب لا لاستعادة الديمقراطية، بل لحماية حدودها بالحديد والنار، لقد فعلت ذلك مع نظام بن علي طيلة ربع قرن، وقد ضغطت على الانقلاب لقبول طرد مهاجرين غير نظاميين كانوا يُنْزَلون بمطار طبرقة المغلق، غالبًا تحت جنح الظلام مقابل أعطيات لم يعرف أحد حجمها.
نعم النظام معزول
قطع الانقلاب كل أواصر البلد مع جيرانه، هذه حقيقة مرئية لا يجدي فيها نفعًا أن يستعيد علاقته مع نظام الشبيحة في سوريا، وهو النظام الذي يحاول فكّ عزلة أكبر عن نفسه، ولو بربط علاقات مع أنظمة التطبيع بلحس كل تاريخه الخطابي في الممانعة.
عزلة خارجية تتضافر مع عزلة داخلية، فكل الطيف السياسي في الداخل وصل إلى حقيقة لا مراء فيها: هذا الانقلاب لم يعد يملك أسباب البقاء، لقد ذهب في طريق القمع خطوات كبيرة لا رجوع فيها، ومعارضته ليست فقط إسلامية يمكن وصمها بالإرهاب على طريقة بن علي، الذي أتقن لعبة عزل الإسلاميين وقبض ثمن ذلك سندًا ماليًّا غربيًّا لنظامه مدة ربع قرن.
إن وصم الإسلاميين بالإرهاب لم يعد يؤثر على السياسات الغربية، رغم محاولة اليمين الإيطالي إثارة المخاوف القديمة (وهم الأعرف أنها لم تكن إلا دعاية مصطنعة).
ولا يبدو أن وضع يساري استئصالي على رأس الأجهزة الأمنية سيوفّر له هذه الفرصة، فالطيف الأوسع من معارضيه ليسوا إسلاميين، هذه علامة تخبُّط أخرى تكشف جهلًا مدقعًا بخريطة السياسة في الداخل والخارج، فضلًا عن أن العزل والاستبدال قد جاءا تحت ضغط دولي، ونتيجة لقمع المعارضة غير الإسلامية أساسًا.
أقدامنا على الأرض ونراقب
تدخل تونس الليلة شهر رمضان تحت عناوين واضحة: غلاء فاحش لم يمكن كبحه، ورواتب متأخرة، وجفاف قاتل ينذر بموسم فلاحي صفري، واضطراب في عمل الأجهزة الصلبة يكشف تخبُّطها، بين إسناد انقلاب بلا أفق ومسؤولية وضع حدّ له وتحمُّل كلفة الحكم من بعده، بما في ذلك كلفة المشاركة في جرائمه.
هل نستبشر بأثر الأزمة؟ لن نستعجل الفرح فالطريق لا تزال طويلة، لكن يزداد اليقين لدينا أن الحكم الفردي قد ولّى إلى غير رجعة، وأن تجربة الانقلاب قد علّمت حتى أقوى أعداء الديمقراطية أن الديكتاتورية لا يمكنها أن تحكم الناس، نحتاج صبرًا كثيرًا لاحتمال المرحلة الأخيرة من انقلاب غبي سيقدّم للعالم أفضل صور الغباء السياسي التي يجب اجتنابها.