قد يكون القول بالاستبدال النخبوي نوعا من التحليل الرغبوي يعقب خيبتنا من تحليل سابق ظن خيرا بالنخب وانتظر منها الخروج بالثورة إلى تجربة ديمقراطية ثابتة، فخاب الظن فقلنا بالاستبدال رغبة لا واقعا. لكن شواهد من التاريخ تدلنا على أن التحولات الكبرى في التاريخ غيّرت قيادات الشعوب وغيرت الأفكار وأحلت دوما جديدا من البشر ومن الفكر، ولا نظننا بمنجاة من قوانين التاريخ؛ ونحن نعاين فشلا ونراقب تحولات تجري لا يزال أغلبها غير منظور من قبل السادرين في الوقوف على ظاهر الأحداث الجارية.
كيف يمر الاستبدال عبر الأزمات؟ وهل يمر من غيرها؟ إن حالات السلم هي حالات من الطمأنينة الراكدة المستسلمة لوثوقية أصولية غير منتجة. ونحن نخرج من حالة سلم موهومة إلى حالات اضطراب بلا أفق بيِّن؛ إلا أن يكون فاتحة لشيء مجهول لا نشك في جدته وإن لم تكتمل مفرداته ليقوم التحليل على معطيات كمية.
النخب الاقتصادية لم تلقف الثورة لتقود
لدينا تراث ثقيل من تحاليل مدارس التغيير الاجتماعي حول دور النخب الاقتصادية في قيادة التحولات الكبرى، فبرجوازية أوروبا هي التي أنجزت الثورة الصناعية الكبرى وثورة الصناعة موّلت الفكر والثقافة وخلقت التغيير العميق الذي أسقط النخب التقليدية وأنظمتها السياسية التي حمتها، وسمَّت كل ذلك بالحداثة. ونراها لا تزال تقود مجتمعاتها وتحمي ديمقراطياتها ولا يعكر صفوها حديث الثورات الاجتماعية إلا قليلا، فتحتمله وتوجهه فتستفيد منه استقرارا سياسيا يمهد لها المزيد من النجاحات.
نفرط في مقارنة نخبتنا الاقتصادية بالنخب الاقتصادية التي قادت مجتمعاتها في الغرب، لكن كنا نود بعض وعيها لتكون قاطرة لثورة حررتها من الابتزاز والفساد المسلط عليها. لم يحدث ذلك فوعينا أنها نخبة فاشلة لا تعدو كونها مجموعات من لصوص المال العام المتخصصين في التحايل الضريبي، وتخشى أن تقع تحت طائلة محاسبة بوسائل الديمقراطية. وعيها القاصر لم ولا ينبهها إلى أن الانقلاب لا يملك أسباب البقاء التي تسمح لها بالتمتع بوضع الطفل المدلل للنظام؛ تقدم له الرشاوى فيقدم لها الأمن فيحميه-ا من الشارع المتنمر.
هذا الوضع الآيل للسقوط لن تنقذه طبقة رأس المال المحتال وسيرحل بها في هزيمته القريبة رغم اليأس المهيمن على النفوس. هذه مؤشرات استبدال رغم أننا لا نرى نخبا اقتصادية تتشكل حتى اللحظة.
النخب السياسة أعجز من النخب الاقتصادية
ظهرت النخب المعارضة للنظام منذ فجر الاستقلال وتنوعت ونوعت نضالاتها لكنها لم تغير النظام، بل لم تؤثر على خط سيره ففعل ما أراد بالناس وبالبلد. كان عدد النخب يتسع مع تطور التعليم لكنه كان يتمزق بين اتجاهات سياسية مختلفة. وحتى لحظة الثورة كانت الخلافات ذات الطبيعة الأيديولوجية تمنع هذه النخب من كل فعل مجد تجاه منظومات الحكم، لكن الشارع المنتفض قدم لهذه النخب فرصة عمرها لتقود وتغيّر وتضع حديثها عن الديمقراطية حيز التطبيق.
لم يحدث ذلك، بل حدث العكس؛ الخلافات الأيديولوجية كانت أقوى من كل حديث الحرية والديمقراطية. عبثت النخب بالثورة كل من موضعه، وأدى عبثها إلى فقدانها السلطة وفقدان ثقة الشارع المنتفض خاصة. وهي حتى اللحظة غير واعية بالقطيعة التي بينها وبين الشارع، وما زال بعضها يؤمل أن يلتحق بها الشارع فيفرط في الحديث عن الأزمة الاقتصادية بخلفية "أيها الفقراء التحقوا بنا لنخرجكم من الأزمة بصفتنا نخبة قيادية". هذا الفشل لا غبار عليه وهو بداية الاستبدال، فمن سيخلف هذه النخبة المستهلكة؟ نقف على الفشل ولا نفلح في التقاط صور القادمين.
النخب الأيديولوجية استنفدت
أغلب المسيّسين دخلوا على الشأن العام من مواقع أيديولوجية نسميها مجازا فكرية. عندما نقرأ نصوصهم نجد المشتركات حول مستقبل من فرص متعادلة وديمقراطية سليمة على الورق، وعندما تابعناهم على الأرض وخاصة منذ الثورة وجدنا الصراعات البينية التي لم تفلح في الارتقاء فوق الحزازات والصراعات الغريزية. لقد عاينّا متعلمين وفيهم رؤوس كبيرة تحسن ترتيب الجمل الثورية لكن تلك الرؤوس ظلت صغيرة إزاء هموم الوطن والناس، ولو أحصينا المال العالم الذي توزعوه بينهم باسم حقوق الشغيلة سنجد أنهم كانوا يقسمون الدولة بينهم بحذق لصوص محترفين. لم تكن أفكارهم إلا ذرائع لمكاسب ظلت صغيرة رغم ما أسبغوا عليها من كلام كبير مستل من نظريات العدل والإنصاف في العالم.
المتعلمون المؤدلجون يظهرون لنا الآن كأكبر سكين شق الإجماع الوطني وفتت مطالب الفقراء وحول هؤلاء الفقراء إلى كتل يائسة تتعلق بقش الانقلاب لتعيش، وما زال الكثير من المؤدلجين ينفخ في كير الفرقة ويصب النفط على نار الخلافات ويجد لذة في رؤية شركاء الوطن يحترقون. هذه علامات نهاية وبوار لحملة الأيديولوجيات بمختلف فرقها، إنهم ينتهون بنهاية الانقلاب وإن تأخرت، ونرى الزمن يهيئ أرضا سياسية دونهم لكن مرة أخرى لا نفلح في التقاط صور القادمين من خلفهم لملء الفراغات الكارثية التي تركوها. ونراهم يعيشون آخر أيامهم ولا رصيد لهم إلا أن بديلهم لم يكشف وجهه؛ إن ميلاد بديلهم عسير فهو ميلاد تأسيسي لأنه لا يبني على تراثهم الخاسر.
استبدال بلا بدلائل ظاهرة؟
كيف يمكن بناء حديث الاستبدال دون توضيح ملامح النخب القادمة؟ هذا تعقيد منهجي لأن الكتابة تفتقد المعلومات وتقف على ظاهر الوقائع لكن الواقعة الأظهر للعيان هي عجز الموجودين بالمشهد الاقتصادي والسياسي والفكري، لقد كانوا مستنفدين قبل الانقلاب وكان للانقلاب مزيّة كشف الساحة الفارغة.
نكتب في الساعات المضطربة التي سيطرت فيها أخبار عن عجز الرئيس عن القيام بمهمته. منطقة من اللا يقين مثل الأخبار الرائجة التي وإن لم تصح الآن فإنها تكشف العجز القاتل للجميع، فلا أحد في هذه الأيام أخرج رأسه بشجاعة ليتكلم عن المستقبل، بل كل الحديث دفاع مستميت عن خيار فاشل (منذ انطلاقته) أو شماتة مقرفة في رجل عاجز فكرا وروحا وأخيرا جسدا لن يعيده الأطباء إلى الشباب.
استبدال نعم، لكن أوضح ما فيه عجز الظاهرين في المشهد ينتظرون معجزات من الموت أو معجزات من الأطباء. قال لنا الفيزيائيون إن الطبيعة تأبى الفراغ وستقدم بديلها الطبيعي. قد نعيش لنرى فنحن من بعض المنتظرين معجزة، وقد علمنا في التاريخ أن المعجزات وهْم جميل يَحبك القصص للعاجزين فينامون سعداء.
إن بلدا يعيش بوهم المعجزات هو بلد لا يصنع بدائله إلا بالاستسلام للقدر، ولدينا جيران يصنعون الأقدار ويوزعون الخبز على الكسالى. إن البطولات هنا تشبه بطولات المتنبي الذي مات في المعركة الوحيدة التي فرضت عليه.