أسوأ ما يواجهه الرئيس قيس سعيّد وينكره.. وهو يمضي قدما في نحت ملامح مشروعه الفردي دون هوادة ولا أدنى تردد أو ادراك حقيقي لحجم المخاطر التي يقود اليها الدولة .. ليس خصومه المفترضين أو الوهميين أو أولئك الذين افتعلت وجودهم بطانة حكمه .. من المتآمرين والخونة كما يصفهم في سقطة سياسية سيكتشف لاحقا فداحتها ..ولكن الأسوأ هو جينات الدمار اللصيقة بهذا المشروع في عمقه ..
الخطأ الأول الذي ارتكبه سعيد وسيكون هو في النهاية محرّك الهزيمة الرئيسي هو اعتقاده في كون الحكم الفردي الذي يسعى اليه يعني هيمنة الفرد بأدوات وآليات هشة تنبني بالأساس على عامل الولاء والطاعة ولا تتطلب بناء مؤسساتي ولا تحتاج الى محامل فكرية ولا الى خطط عمل ومنهجية حكم تلبّي حاجيات الجماهير التي قد تقبل الخضوع ولكن على المدى الطويل لن تقبل الجوع اذا غابت الحلول ..والجوع حتّم تغييرات عميقة في التاريخ التونسي ..حتى التأسيس لفكرة المؤامرة كفكرة مركزية لتبرير الفشل ستخلق على المدى المتوسط نوع من الضجر والتململ في تقبلها ..
وكلما طالت المدة سيتهاوى مبرّر المؤامرة ..لأنها ستتحوّل الى سلاح ضد الرئيس وستبرزه في صورة الرجل الضعيف الذي يزعم امتلاكه لكل أدوات القوة وعمليا يسيطر على الدولة، ولكنه فشل في التخلّص من المتآمرين عن قوت الشعب الذي فشل بدوره في إيجاد رغيف الخبز ..ولذلك نرى كيف يحاول قيس سعيد التنويع في أصناف المؤامرة فمرة ينسبها للمحتكرين ومرة يراهن عليها لضرب خصومه عساه ينجح في وأد كل نفس مقاوم لسياساته ..
ولكن في النهاية هذا الرهان فاشل بالضرورة لأن التعنٌت الذي يمارسه سيُقابل بالعناد .. وسياسة الاستنزاف لن تجهض الرغبة في مواصلة الصراع وفكرة المقاومة التي ستتخذ كل مرة تمظهرات جديدة وهي المتحرّرة من الضغط الشعبي المطالب باستحقاقات آنية ..عكس من يحكم ..المعارضة مطالبة ببذل عناية وليس بنتيجة ..وهذا ما لم يدركه سعيد بعد !
بعيدا عن الجينات العقيمة للمشروع والذي لن تحمله بعيدا لغياب فكرة سياسية منطقية وواضحة قادرة على الصمود لسنوات وتلبية حاجة الشعب ..هناك نقص الخبرة في إدارة صراعات تتخذ أوجه مختلفة اليوم مع افتقاد الإمكانيات الذاتية لمواجهة ضغوطات دولية تحشره دائما في الزاوية لأنه يحتاج في كل الحالات الى دعم دولي مالي للمحافظة على مزاج شعبي هادئ ..فحتى لو صدّق البعض قصة المؤامرة ففي النهاية تلك القصة لن تدفع له ثمن الفواتير والاقساط البنكية ولا الكراء ولن يستعملها في تحصيل قوت يومه !
ووهن الفكرة بدا جليا اليوم في تحول الدستور الجديد الى نص مهجور لا يكترث له أحد بعد اشهر قليلة من صياغته ..وفي وجود برلمان لا ينتظر منه أحدا انجاز يذكر، بل بقينا في منطق ديكورية وشكلانية المؤسسات..وفي وجود حكومة يراهن عليها الرئيس لتحقيق نجاح ما ولكن عند الفشل كما يحصل اليوم فانه لوحده ستيتحمل أوزار الجميع واوزار المنظومة الرخوة والمرتبكة والانتهازية التي خلقها حوله !
وأسوأ من كل ما تقدّم هو طبيعة المنجذبين لمشروع قيس سعيد والذين سينفضون من حوله دون تردّد متى استشعروا خطرا عميقا ..فمجرد احتجابه لأيام جعلهم متوجسين خائفين مرتبكين !
ويعود ذلك الى طبيعة هذا المشروع السياسي الهجين الذي لا فكرة منطقية ومترابطة تعبّر عنه ..مجرّد خواطر وأفكار راودت ذهن الرئيس ويحاول تنفيذها ..بمنطق فوقي لا تشاور ولا نقاش فيه .. هنا نذكّر بواقعة صياغة الدستور حيث رماه قيس سعيد في أول سلة مهملات واخرج دستوره من الدرج بعد أن اسقط ورقة التوت عن عدد من الشخصيات التي تزلفت واقتربت منه وكان اعلم بنواياها ولذلك لفظها كنواة تمر ..ليس تعففا منه، ولكن لأن طبيعة فكرته لمشروعه لا تقبل بروز شخصيات في جواره ..هو المُعلم والملهم.. وكل شخصية تنافسه قليلا في الأضواء سيتخلّص منها فورا ودون تردد .. فالبروفايل المحبّذ دائما للرئيس هو بروفايل رئيسة الحكومة السمع والطاعة والنظر بانبهار الى المعلم وهو يتكلم لكي لا يقول شيئا !
وهذه العلاقة الفوقية حتّمت عليه دائما أن يشهر الجزرة التي أثارت لعاب المتسلقين فظلوا يلاحقونها دون هوادة ..هو يدرك انه لا بد ان يستعمل الجزرة دائما حتى يجد مريدين له وهم يأملون في الإمساك بتلك الجزرة ونيل الرضا الذي سيفتح أبواب الدولة على مصراعيها أمامهم.
وتلك الشخصيات التي تحوم في فلك الرئيس من المؤلفة قلوبهم سواء أولئك الموظفين الذين هم رهن اشارته أو المريدون من اتباعه من شخصيات ونخب وهنا لا اتحدث عن الناس العاديين أو الشعب والذي هو في الأصل شعب انفعالي عاطفي يتعامل بسذاجة كبيرة مع الفعل السياسي ويتأثر بالأقوال لا بالأفعال ..
قلنا تلك الشخصيات أصنفها الى أربعة أنواع رئيسية مع وجود هوامش:
*متسلقون تحركهم رغبة في البروز أو في الوصول الى السلطة معتقدين أن التاريخ أنصفهم بفرصة العمر مع قيس سعيّد ويوهمون أنفسهم أنهم شركاء له في اللحظة في حين أنهم مجرد أدوات اقتضاها مشروعه في لحظة معينة ...وبعد مدة ستحولون بدورهم الى خصوم ولن يتردد في سحقهم كما يفعل الان مع بعض المؤيدين السابقين !
*شخصيات هشّة ومعطوبة نفسيا ...مدفوعة بالأحقاد القديمة والضغائن عانت من الانكار وعدم الاعتراف في السابق ومن التجاهل ووجدت نفسها مع قيس سعيد محل اهتمام ومتابعة بعد احتقار ... وانصباب الاضواء عليها فجأة جعلها تعيش لوثة المبالغة في الانحياز له غير مدركة أنها في النهاية ستدفع الثمن لوحدها ولن يحميها أبدا !
*شخصيات يقودها دهاء وخبث عميق جعلها تحاول استغلال اللحظة لتحقيق منافع خاصة بتأجير مواقف مهادنة وغير حقيقية تشكر سعيد علنا وتشتمه سرّا ... وهذا النوع الأخطر الذي تحرّكه المصلحة وسيستغل اللحظة الى الآخر وسيوظفها الى مصلحته وبعد ذلك سيمسح في سعيّد كل الآثام وينجو لإعادة رسكلة نفسه في مهمة جديدة ومع لاعب جديد !
*أشخاص يعتقدون في ما يقوم به قيس سعيد وفي مشروعه وهم أقلية وبعضهم نجدهم قد تحوّلوا الى خانة من خانات الشخصيات الثلاث السابقة ...هؤلاء يتقاسمون الفكرة الغامضة والملتبسة للمشروع مع قيس سعيد ولكن الفرق بينهم وبينه أنه أراد الزعامة وهم يبحثون لهم اليوم عن دور لهم في ظل الزعيم ولا يجدونه .. يحاولون اللعب فقط من الكواليس، ولكن يوما ما سيشعرون بالغبن لأنهم صنعوا مجدا لأحدهم دون ان ينالهم ريحه وسينقبلون عليه أيضا.
كل هذه الشخصيات تزعم انها تحب سعيد وتدافع عنه وتسنده وتراه لا شريك له ..ولكنها مع أوّل منعطف جدي يهدد حكمه ستقفز كالفئران من السفينة التائهة اليوم وستخرس الى الابد .. فيوم يفقد سعيد قوته لن يجد من يدافع عليه او يواصل مشروعه ..سينتهي وكأنه لم يكن ..والملتصقين به اليوم كالطحالب سيكونون أول من ينفضّ من حوله .. والشعب الذي يراهن عليه اليوم سيكون أول من يهتف ضدّه اذا لم يقدم له حلولا لتحسين حياته !
وهذه هي لعنة الحكم الفردي ..يعيشها الفرد ليبني حكما لا يزول، ولكن كل حكم الى الزوال بالضرورة ..ووقتها ذلك الفرد الذي ظن انه سيحكم الى الابد ..سيجد نفسه لوحده تماما و لا يُذكر في التاريخ الا بسيئاته !