نداء الى النخب التونسية من أجل فهم سوسيولوجي وفعل سياسي مختلف لإنقاذ تونس
تقديم :
لا يهمّ هنا كثيرا الوقوف عند مصطلح 'الثورة التونسية ' واشتراط الاتفاق عليه لنقاش الفرضية الأساسية في هذا المقال، اذ بالإمكان استعماله اجرائيا فحسب للإشارة الى ما حدث وتسميته انتفاضة أو مسارا ثوريّا أو مزيجا بين أحدهما وانقلاب حديث غير عسكري،الخ. إن المهم هنا هو النظر الى دينامية ما حدث في تعقّده الداخلي و الخارجي و الأهم من ذلك عندي هنا هو الوعي بالخلفية النظرية والمنهجية التي قادت النخب التونسية وهي تفعل منذ 2011 الى اليوم.
كما لا يهم هنا الوقوف عند زاوية النظر المنظورية (الباراديغمية) -محور المقال- ورفضها لأنّها تحلل الأزمة فكريا وليس اقتصاديا أو سياسيا ، إذ بالامكان- منهجيا- تناول الجانب النظري و المنهجي لوحده دون أن يعني ذلك رفض المقاربات الأخرى شديدة الأهمية أيضا. ولكنني أعتقد انّه من المهمّ جدّا تنبيه المثقفين و السياسيين المثقفين في تونس الى الفخ النظري والمنهجي الذي وقعوا فيه لأنه جزء موجّه للفعل الاجتماعي السياسي بقطع النظر عن نقاش الدوافع والأسباب التي قد يصر البعض طبعا على ضرورة الاشارة الى 'المحدد' أو' الرئيسي' منها، وهذا ليس مدار اهتمامنا هنا رغم أنني أعلن مسبقا أنني من أنصار التناول المركّب للواقع المعقّد للظواهر رغم قناعتي المنهجية بالوزن الخاص لما هو اقتصادي في التاريخ الذي كان ابن خلدون نفسه قد أشار اليه في معرض حديثه عن " طرق تحصيل المعاش ".
1- الفرضية الأساسية:
فرضيتي الأساسية هنا هي اذن منظورية ( أو 'باراديغمية' ) نظرية- منهجية وتقول إن النخب التونسية الأساسية نظرت الى فعلها الاجتماعي السياسي ومارسته من منظور وظيفي تراوح بين ما أسمّيه ' الوظيفية التفكيكية ' - قبل 25 جويلية 2021- و' الوظيفية التسبيكية ' - بعد 25 جويلية مع قيس سعيّد.
ان الوظيفية الاجتماعية (المطلقة خاصة) هي النظر الى المجتمع تقريبا نظرة عضوية (بوصفه جسدا) و الى مكوناته بوصفها أجزاء تقوم بوظائف تخدم ذلك الجسد ككل أو أحد أعضائه الرئيسية أو الرّئيسة - كما يقال قديما في اشارة الى 'العضو الرئيس'،وهي لذلك غالبا 'وظيفية ثقافية' ومن هنا أهمية الاشارة الى الجانب المنظوري (النظري المنهجي) هنا.
وأقصد بالوظيفية التفكيكية تحديدا الوظيفية النيوليبيرالية المعولمة التي تعتبر الاقتصاد الليبيرالي المعولم محور اهتمامها وتقوم بتفكيك كل ما هو عمومي في الاقتصاد الوطني لخوصصته بسبب اعتبارها المؤسسة الاقتصادية العابرة للحدود العضو الأهم في الجسد الاجتماعي الداخلي و الدولي. وهذه الوظيفية تؤدّي، كما وضّح ذلك ،مثلا، بيار بورديو في مقاله الشهير حول النيوليبيرالية وكما فعل الكثيرون غيره ، الى 'المينارشي' السياسية (أقل ما يمكن من الدولة ومن القطاع العام الوطني ) ،والى تفكيك العلاقات و المكاسب الاجتماعية المكتسبة حتى داخل 'الليبيرالية الاجتماعية' ذات الصبغة الكاينزية (نسبة الى ج.م.كاينز) ، والى المزيد من سلعنة الثقافة وقولبتها على الطريقة 'الماكدونالدية' (نسبة الى سلسلة مطاعم ماكدونالد الأمريكية )، والى المزيد من عولمة التبعية خارجيا، ولو بالحرب كما حصل في ليبيا وسوريا وكما يحصل في السودان ، وذلك باخضاعها ليس حتى الى السلط السياسية في دول المركز بل الى شركاته الاقتصادية وبنوكه العابرة للقارات.
أما الوظيفية التسبيكية (من السبك والتسبيك) فهي ، في مثالنا التونسي ، تلك التي تردّ الفعل على الوظيفية التفكيكية السابقة ، ولكن بنفس الرؤية النظرية و المنهجية و بنفس النزعة المنظورية الاجتماعية و الثقافية ، داعية كما عبّر عن ذلك رئيس الجمهورية بوضوح الى حماية المجتمع و الدولة من التفكيك والى إعادة توحيده تحت قيادة الدولة وفق رؤية ثقافية هووية وطنية. وهنا تصبح الدولة هي العضو الأساسي في الجسد الاجتماعي - وليس المؤسسة الاقتصادية النيوليبيرالية - وينظر اليها كالعمود الفقري الضامن لوحدة وتماسك المجتمع في الداخل ولتمايزه عن أجساد المجتمعات و الدول الأخرى وفق نظرية وظيفية خاصة في العلاقات الدولية قد تعبر عن نفسها بالاتجاه نحو محاولة البحث عن النقاوة الاجتماعية الوطنية من ناحية وعن السيادة السياسية الوطنية من ناحية ثانية .
ومن حيث الميل العام ،ورغم اختلاف الفعل عن ردّ الفعل في مضامينهما الاجتماعية و التاريخية ، تلتقي الوظيفيتان في الروحية النظرية المنهجية التي تؤدّي ،عمليّا، في الوظيفية التفكيكية الى احتمال تغول المؤسسة الاقتصادية الخاصة المعولمة كمؤسسة مركزية ، وفي الوظيفية التسبيكية الى احتمال تغول المؤسسة السياسية العامة الوطنية المتمثلة في الدولة كمؤسسة مركزية.
وبمعنى ما ، تؤدّي الوظيفية التفكيكية الى التفكيك من أجل اعادة التسبيك ولكن بطريقة جديدة هدفها النهائي التذويبية الجماعية لصالح التذريرية الفردية المتمحورة حول الفردية الأنانية الاقتصادية ، بينما تؤدّي الوظيفية التسبيكية الى التذويبية الفردية لصالح التسبيكية الجماعية المتمحورة حول الغيرية الجماعية السياسية مما يعني وجود خطر ما في الحالتين قد يصل الى العجز و/أو الفوضى التفكيكية في الحالة الأولى ، والى الصهر التسلّطي و/أو الاستبدادي في الحالة الثانية.
2- تمظهرات التفكيك والتسبيك الأساسية :
باختصار شديد ، يمكن الاشارة الى بعض المسائل التي تؤكّد انتهاج النخب التونسية نهج الوظيفية التفكيكية ثم الوظيفية التسبيكية كما يلي:
أ- منذ 2011 الى حدود 25 جويلية 2021 لاحظنا مثلا
- تفكيك سياسي بين السلط الثلاث بحيث وصل الأمر الى أزمة بين الرئاسات والحكومات والمجلسين التأسيسي والتشريعي وداخل السلطة القضائية.
- تفكيك ترابي –اداري من خلال قسم دستور 2014 المتعلق بالسلطة الجهوية.
- تفكيك اداري من خلال النزاع حول سياسة التمكين في أجهزة الدولة الادارية والأمنية والعسكرية.
- تفكيك اجتماعي من خلال اللعب على النزعة الجهوية (جنوب /شمال وسواحل / دواخل) .
- تفكيك اقتصادي من خلال اللعب على العلاقة بين الاقتصادين المهيكل والموازي و من خلال الصراع حول النخب الاقتصادية وحول منظمات الأعراف.
- تفكيك مالي لعلّ أخطره اصدار قانون استقلال البنك المركزي .
- تفكيك ثقافي من خلال طرح الصراعات العقائدية بين اسلاميين وعلمانيين .
- تفكيك ديبلوماسي من خلال اللعب على المحاور الاقليمية والدولية.
ب- من 25 جويلية 2021 الى اليوم لاحظنا مثلا
- تسبيك سياسي- رسمي من خلال نزعة جمهورية رئاسوية تعتبر الرئاسة وحدها سلطة فعلية بينما تعتبر باقي السلط مجرّد وظائف مع ميل الى 'تطهير' السلطتين التشريعية والقضائية.
- تسبيك اجتماعي – شعبي من خلال نزعة شعبوية تصهر مفهوم المجتمع و الشعب بالتعالي عن تنوعاته الموقعية واختلافاته الموقفية وعن نخبه الفكرية و السياسية والنقابية .
- تسبيك سياسي –اجتماعي بيني من خلال تهميش الأحزاب و المنظمات و الجمعيات .
- تسبيك اقتصادي ، هو الأضعف ، من خلال الحملة المعلنة على الفساد وعبر استحداث ' الشركات الأهلية ' كمؤسسة ' اقتصادية شعبية'.
- تسبيك ثقافي من خلال الاستحضار المتواتر لتصور وظيفي ثقافي محافظ عن الهوية العربية الاسلامية حتى الوصول الى التسبيك الاثني أصلا بالحديث عن صفاء التركيبة الديمغرافية ضد مهاجري جنوب الصحراء من الأفارقة .
- تسبيك ديبلوماسي من خلال محاولة الوقوف على نفس المسافة من المحاور الاقليمية والدولية ولكن مع ميل اقليمي فعلي باتجاه البلدان حيث تحافظ الدولة على مكانتها المركزية أو تستعيدها ضد الوظيفية التفكيكية.
3- حدود التفكيك و التسبيك :
لابدّ من الاشارة أن التفكيك جرى على مراحل :
- مرحلة 2011-2014 حيث كان تفكيكا اسلامويا ظاهرا ولكنه يخفي نزعة تسبيكية قادمة في 'الخلافة السادسة' بتصور وظيفي ثقافي سياسي اسلامي محافظ. في هذه المرحلة حاول الاسلاميون التفكيك من أجل اعادة التسبيك الاستراتيجي ولكنهم فشلوا.
- مرحلة 2014-2019 حيث وقعت محاولة استعادة 'هيبة الدولة' ليبيراليا وفشلت وعادت الى 'التوافق' الذي في مناخه تواصل التفكيك بسبب تعادل الضعف الداخلي والقبول بأوامر 'المعلم الكبير ' الخارجي .
- مرحلة 2019-2021 حيث عرفنا نهاية التفكيك وظهور الشكل الحالي من التسبيك بعد فشل فرصة صغيرة لتجنب انحرافي التفكيك والتسبيك معا مع حكومة الياس الفخفاخ التي اسقطت بسرعة ومررنا الى معركة لي الأذرع التي ادت الى 25 جويلية و تكاد تصل الآن الى مرحلة كسر العظام .
- مرحلة 25 جويلية 2021… حيث انتصرت رؤية التسبيك الحالية التي لا يجب أن تخفي أنها تمارس بدورها عملية التفكيك للعناصر التي تعتبرها هي أدوات تفكيك اذ لا تفكيك دون شكل من التسبيك ولا العكس ممكن أيضا.
وهكذا، باختصار شديد ، يمكن القول إن أهم النخب السياسية التونسية المهيمنة منذ 2011 كانت ، بشكل ما، وظيفية بمعنيين :
- بمعنى تبنّي رؤية سوسيولوجية- سياسية وظيفية ولو في شكل 'فلسفة عفوية' أو 'نظرية عفوية' لا يقع الوعي بها أو التنظير لها من قبل معتنقيها بوضوح علمي أو سياسي .
- وبمعنى لعب دور اجتماعي سياسي وظيفي موضوعيا لأنها اما كانت وظيفية اقتصادية نيوليبيرالية –ولو بلباس ديني - أو هي وظيفية سياسية شعبوية.
4- خاتمة : من أجل فهم سوسيولوجي وفعل سياسي مختلف لإنقاذ تونس
يجمع علماء الاجتماع و السياسة النقديون أن الوظيفية لها عيوب نظرية ومنهجية كبيرة ولها استتباعات اجتماعية وسياسية خطيرة دائما حتى ولو ثمنوا جزئيا نتائج تلك الاستتباعات في مراحل تاريخية دقيقة عندما يتعرض المجتمع فعليا لخطر الانقراض أو التفكك بحيث يلعب ردّ فعل الجسم الاجتماعي السياسي وقتها دورا وظيفيا دفاعيا ايجابيا مؤقّتا ينبّهون من تحوّله الى سياسة دائمة لا تؤدّي عادة الا الى التسلط والاستبداد باسم الوجود الاجتماعي و/أو باسم الوحدة الاجتماعية .
وبقدر ما تدّعي النخب التونسية الكبرى التمسك بالديمقراطية فان عليها واجب النقد الذاتي النظري والمنهجي من ناحية والعملي السياسي من ناحية ثانية حتى تعيد تعديل بوصلتها السياسية في أفق وطني واجتماعي وديمقراطي يتجاوز الوظيفية بمعنييها المذكورين أعلاه .
وإن أول درس فكري سوسيولوجي عليهم أن يراجعوه هو، مثلا ، الاستفادة من بديهيات علم النفس الاجتماعي كما وضحها كثر من بينهم كورت ليفين و جاكوب مورينو في نظرية دينامية المجموعات للتفريق بين الفوضوية والتسلطة و الديمقراطية ، وكذلك من بديهيات علم الاجتماع السياسي كما وضحّها تيودو أدورنو وبوب ألتماير في نظرية الفروق بين الشخصية الثورية و الشخصية الديمقراطية و الشخصية التسلّطية .
هذا واننا لا نعتبر الأزمة -لا أساسا ولا حصرا - أزمة ثقافة سوسيولوجية أو حتى أزمة ثقافية عموما لأننا لا نؤمن بما يسمى 'المركزية السوسيولوجية ' في الفهم ، ولا ب'المنهج التربوي' المتوارث عند بعض نخبنا والذي يفسر كل شيء بغياب التعليم والثقافة ، ولكننا نعتبرها أزمة مركّبة.. من بين مظاهرها أزمة كيفية النظر وكيفية الفعل ومنهجهما المهم تحليلهما ونقدهما سوسيولوجيا ،أيضا، حتى لو كانا ، فرضا ، عن 'عفوية' فكرية و عن 'حسن نية ' عملية عند البعض، عسى أن تساهم زاوية النظر السوسيولوجية في انارة جانب من جوانب الأزمة المعقّدة التي تتطلب نظرة مركّبة تتشارك في توضيحها علوم الانسان والاجتماع كلها بشرط توفر مقدمة الرغبة في العثور على الأقل على بعض من الحقيقة وبعض من الحق التونسيين اللذين يمكن العثور عليهما بالدخول اليهما من أبواب تونسية جميلة عديدة لا تزال قائمة لذي البصيرة..قبل 'خراب البصرة'.