أصبحت علاقة الدّولة التّونسيّة بصندوق النّقد الدّولي حديث القاصي والدّاني داخل البلد وخارجه سواء باعتباره المنقذ من الانهيار أو سبب الانهيار ... وصلت المفاوضات مع الصّندوق منتهاها باتفاق غير معلن بينه وبين الحكومة لكن حزمة الإصلاحات التي يعلّق عليها الصّندوق إقراض الدولة معلومة للقاضي والدّاني ولكن المخفيّ منها البرنامج والمدى الزّمني الذي التزمت به الحكومة لتنفيذ هذه الإصلاحات …
لم يبق إذا لتجاوز هذا الإنسداد والخروج من الأزمة بشروط الصّندوق إلّا تزكية كلّ مخرجات هذا المسار التفاوضي بتقديم الضّمانات التي تثبّت التعهّدات وتوثّق الالتزامات وتطبعها بطابع السيادة التي يجسّدها في السّياق الرّاهن ختم رأس السلطة التنفيذيّة ...
رغم أنّ رئيس الدّولة لم يعترض على المسار التفاوضي الذي تخوضه الحكومة والالتزامات التي وضعتها على عاتق الدّولة وكاهل المنظومة الوطنيّة فقد عبّر رئيس الدّولة مرارا وتكرارا عن تحفّظه على اشتراطات الصّندوق المخلّة وذات الآثار الوخيمة على الطبقات الضعيفة بل على استقلال البلد والقرار السيادي للدّولة
مقابل ذلك دعا للتّعويل على الذّات مراهنا مرّة على استرجاع الأموال المنهوبة خارج البلد ومرّة أخرى على الصلح المشروط مع الفاسدين بالاستثمار " الأكثر فسادا في المناطق الأكثر فقرا " فضلا عن محاربة الاحتكار والترفيع في إنتاج الموارد الطبيعية وفتح الباب للشّركات الأهليّة لامتصاص الأزمة ... دون الحديث عن أصغاث أحلام البريكس…
إنّ موقف رئيس الدّولة من الصّندوق وسياساته ومآلات المضيّ معه إلى منتهى المسار التفاوضي هو نفس ما يتبناه أجيال من المناضلين السياسيين والحقوقيين على اختلاف توجهاتهم على امتداد عقود الدّولة الوطنيّة في علاقتها بالصّندوق وسياسة الاقتراض عموما …
لكن الإشكال يكمن طيلة العقود الفارطة وخاصّة العشرية الأخيرة وتجسّد بشكل مأساويّ ما بعد 25 جويلية يتمثّل في أنّ تحصين البلد من أيّ اشتراطات مخلّة ومخاطبة الصّندوق كوطن حرّ واعد بالتنمية قادر على الإيفاء بالتزاماته يتوقّت على جبهة وطنيّة موحّدة صمّاء مستقرّة يجمعها برنامج تنمويّ تعاقديّ "مقدّس" يرتّب على الجميع التزامات تتقاسمها كلّ مكونات المجموعة الوطنية بشكل قائم على التّناسب العادل لإنقاذ سفينة البلد ...
سيبقى رئيس البلد ممزّقا بين موقفه الأخلاقي من الصّندوق وشبح الأزمة المنذر بالانهيار في ظلّ انقطاع السّبل ... إن هو أمضى خسر أخلاقيا وسياسيّا واجتماعيا وإن هو امتنع خسر اقتصاديّا واجتماعيا ولن يطول هامش التمنّع والهروب إلى المجهول ...
الخيارات الوطنيّة الثورية تحتاج جبهة وطنية ثوريّة لا جبهة مقسّمة ضعيفة مهشّمة في العراء تتقاذفها إرادات الطّامعين و ينفرد بها سماسرة السّوق وتجار الأزمات في ظلّ حكم فردي تسلّطي معزول عن القوى الوطنية دون رؤية ولا برنامج وطني تعاقدي ... دون ذلك لا يمكن الحديث عن قرار وطني قادر على تجاوز اشتراطات المقرضين ومقايضات الدّائنين ...
ستبقى شعارات السيادة التي ترفع في وجه الصّندوق صرخات دونكيشوتية صمّاء في واد الأزمة السحيق في ظلّ جبهة وطنية هشّة تلاحق رجالَها ونساءَها الشّرفاء القضايا الملفّقة والسّجون الظّالمة والمحاكم والقضاء المغلوب على أمره ...
عاش أجيال من مناضلي الحركة الطلابية يحلمون باستقلال القرار الوطني ويعادون دولة تفرّط في سيادتها للمقرضين وتثقل كاهل مواطنيها لأجيال لم تولد بعد بالمديونية ... لكنّهم لم يعملوا على تقوية الجبهة الوطنية المقاومة للتدخل الخارجي وانساقوا وراء خصوماتهم بعناوين أيديولوجية مستوردة ... واليوم تتجسّد تلك الانقسامات بأكثر الأشكال مأساويّة وفجاجة في ظلّ شعبويّة مقيتة رثّة تجعل البلد أبعد ما يكون عن حلم السيادة والاستقلال ... وأقرب إلى شبح الكوميسيون المالي الذي أدخل البلد تحت سلطة الوصاية الأجنبيّة …