إنّ "دولة الاستقلال" بقدر ما راهنت على "تحرير المرأة" و"نشر التعليم" و"التوجّه نحو الغرب"، ركزت اهتمامها على "احتكار الخطاب الديني"؛ فلم تكتف بمجرّد تحجيم "الزيتونيين" ومنعهم من القيام بأي دور سياسي في الحياة العامّة، بل نذرت نفسها كذلك لمهمّة إقصاء "الإسلاميين" من المشاركة في الحكم أو التداول عليه، ولا فرق في ذلك بين "الحقبة البورقيبية" و"الحقبة النوفمبرية".
حتى كان حدث "الثورة التونسية" وما أفرزته من "انتقال ديمقراطي" شرّع الأبواب على مصراعيها أمام الإسلاميين للمشاركة السياسية الواسعة، فوُضِع كلّ إرث "دولة الاستقلال" بين قوسين بعد قرابة نصف قرن من الرسوخ ومن العمل طبقا لآليات محددة وحسابات دقيقة في إطار منظومة سياسية وتنظيمية متكاملة ومترابطة. فكان ذلك إيذانا بانفجار "أزمة الدولة التونسية" بعد الثورة، قبل أن تتذرّر هي بدورها إلى أزمات متفرقة هنا وهناك: أزمة دستورية، فأزمة حزبية، فأزمة انتخابية، إلى غير ذلك من الأزمات، التي تجد تقاطعها في نهاية المطاف في رفض الاعتراف بأي دور سياسي للإسلاميين في الحكم أو حتى في المشاركة فيه.
وأوّل ما ظهر ذلك بجلاء كان مع صدور القانون الانتخابي الّذي وضع على أساس منع حركة النهضة من حصد أكثر ما يمكن من المقاعد البرلمانية، وذلك باعتماد نظام الاقتراع النسبي مع أكثر البقايا بدلا من نظام الاقتراع العام.
ولقد احتدّ هذا التوجه الإقصائيّ مع مداولات المجلس الوطني التأسيسي التي غلب عليها الاستقطاب والتجاذب واحتاجت إلى أكثر من سنتين قبل المصادقة على دستور2014. وكان من أهم الاعتراضات التي ظهرت خلال هذه المداولات الاعتراض على تجاهل "المجلس" لدستور 59 وعدم اعتماده مرجعا بصورة رسمية في صياغة دستور 2014، وذلك على الرّغم من خطّه التسلّطيّ غير الديمقراطيّ الذي ما زال البعض إلى اليوم ينادي به. ناهيك عن الرفض الممنهج لاي مقترح دستوري كانت تتقدم به حركة النهضة.
ثمّ ازدادت الصراعات السياسية تأجّجا حتى كادت تعصف بالمجلس ومعه بالتجربة الديمقراطية الوليدة، خاصّة بعد اغتيال بعض القيادات السياسية وظهور الإرهاب وسقوط العديد من الشهداء والضحايا سواء في صفوف الجيش والأمن الوطني أو بين عموم الشعب، وهذا فضلا عن اعتصام الرحيل الذي عطل أعمال المجلس الوطني التأسيسي. ولم تنفرج الأزمة جزئيا إلا بخروج حركة النهضة من الحكم.
ولم تكد تخفُت هذه الأزمة مع مصادقة المجلس الوطني التأسيسي على دستور 2014، حتى نُقلت رحاها إلى مسار العدالة الانتقالية: فوُضعت شتّى العراقيل لتعطيل أعمال هيئة الحقيقة والكرامة من مختلف مؤسسات الدولة: فرفض الرئيس الباجي قايد السيسي تمكينها من أي فضاء عمومي لعقد جلساتها العامة والعلنية، واضطرّها إلى عقد جلساتها بعيدا عن فضاءات الدولة الرسمية. كما رفضت الحكومة الحضور في جلساتها أو تمكينها من الاطلاع على الأرشيف الوطني، ولم يقع نشر تقريرها الختامي في الرائد الرسمي إلا بعد صعوبات جمة. أمّا مجلس نواب الشعب فتعنّت في المصادقة على ميزانية الهيئة ورفض سدّ الشغورات التي حصلت فيها.
وما من سبب في الحقيقة كان يفسر كل ذلك الاستعصاء والرفض، اللهمّ إلا ما كان ينطوي عليه مسار العدالة الانتقالية من اعتراف رسميّ بالمظالم التي ارتكبتها الدّولة في حقّ الإسلاميين. زد على ذلك أن عودة ضحايا الاستبداد إلى سالف أعمالهم أو إدماجهم في الوظيفة العمومية بعد طردهم منها كان له وقع الصدمة في وجدان الدولة العميقة، كما لو كان هؤلاء غير تونسيين أو وافدين عليها من الخارج، مع أن قانون الوظيفة العمومية – للإشارة - يمنع حرمان أي تونسي من حقه في الوظيفة العمومية على أسس أيديولوجية أو دينية أو سياسية!
ثمّ ما فتئت هذه الأزمة تظهر بصورة دورية عند تشكيل الحكومات المتعاقبة، حيث كان جوهر الاعتراض دائما يتعلق برفض تشريك حركة النهضة في الخطط البارزة في تلك الحكومات سواء على مستوى رئاسة الحكومة أو على مستوى وزارات السيادة بتعلّة سدّ الذّرائع أمام مشروعها "للتمكين" أو "لاختراق الدولة" ! ولذلك كان كلما عُيّن "نهضاوي" على رأس إحدى الوزارات هاج القوم وماجوا، وبدا الأمر وكأن البلاد يتم تسليمها إلى الغرباء .
ومع أن حركة النهضة أبدت من المرونة الشيء الكثير لاحتواء مزاج الدولة العميقة حتى اتُّهِمتْ بالانخراط في مشروع التطبيع معها، ومع أنها بذلت قصارى جهدها لتجاوز حالة الاستقطاب السياسي ومناخات العنف والتوتر وللانخراط من ثمّ في عملية التوافق خاصة في فترة حكم الباجي قايد السبسي، فإن محاولاتها لم تكلل بالنجاح، اللهم إلا مساهمتها في تمديد عمر الانتقال الديمقراطي. وحتى التنازلات الرمزية الدقيقة التي قدّمها رئيس حركة النهضة كـ"الترحم على بورقيبة" (الذي كان قد حكم عليه بالإعدام في أواخر الثمانينات من القرن الماضي) و"الدعوة إلى عدم التصويت على مشروع قانون عزل التجمعيين من المشاركة السياسية" (مع أن التصويت عليه كان مقرّرا إبان مداولات المجلس الوطني التأسيسي) و"الدعوة إلى المصالحة الشاملة في وقت من الأوقات" (في محاولة لتدارك صعوبات العدالة الانتقالية) بل و"القبول بالانخراط في ترتيبات جيوسياسية مع الفاعل الأمريكي والفرنسي".. والتي لم تكن تخرج إجمالا عن المقاربة التي سطّرتها دولة الاستقلال؛ فقد بقيت خيارات حركة النهضة ورئيسها مطعونا فيها، بل وتم رفض قبول أي إنجاز وطنيّ تشارك فيه حركة النهضة، وذلك حتى لا يُنسب إليها أيّ فضل، وحتى تبقى إنجازات الدولة الوطنية نقية ومسجلة في رصيد البورقبيين فقط. ولذلك لا عجب أن يستمرّ العمل طيلة عشر سنوات كاملة على ترذيل مسار الانتقال الديمقراطي بشكل يومي ومتواصل سواء من الإعلام الخاص والعمومي أو من الصحافة اليومية.
غير أنه ينبغي القول في المقابل إنه بقدر ما ولّدت "الأزمة السياسية" مسارا متوتّرا ومشوّها، فقد كان لأزمة الانتقال الديمقراطي نفسه انعكاساتها السلبيّة القاسية هي الأخرى على التجربة الوليدة.
ذلك أن "نظام الحريات" الذي أرساه هذا الانتقال مثلا لم تستفد منه في الواقع إلا الدولة العميقة في دفاعها عن نفسها بكلّ ما أوتيت من قدرات هائلة، إنْ على صعيد الإعلام والإذاعات والصحافة واستطلاعات الرأي، أو على صعيد ما تملكه من نفوذ وشبكة علاقات واسعة ومخترقة لكل مراكز الدولة. وهو ما أتاح لتجمّعيّة كعبير موسي أن تصعد إلى البرلمان وتعيث في التجربة الديمقراطية الناشئة ترذيلا وتخريبا. كما وجد فيه إعلام العهد البائد فرصة سانحة لنشر الأخبار الزائفة و"المفبركة" ولتوجيه قصف يوميّ مركّز على الرأي العام من أجل تأليبه على الثورة والانتقال الديمقراطي.
ونظرا إلى أنّ نظام الحريات الذي أرساه الانتقال الديمقراطي كان مفتوحا بالكامل ومتحرّرا من كلّ قيد أو حدّ، فقد سمح كذلك ببروز عدة ظواهر غريبة في المجتمع التونسيّ: كتمدّد "الظاهرة السلفية" بمختلف تنويعاتها، وكتضخّم عدد الأحزاب والجمعيات وكثرة من يقف وراءها من الممولين، وكإصرار بعض الجهات على استدراج الرأي العام إلى الخوض في عدد من المواضيع الإشكالية الحساسة التي لم يكن مهيأ بعدُ للبتّ فيها، كما لو كانت من شروط الانتقال الديمقراطي أو من أوكد أولويّاته، وذلك على غرار مواضيع من قبيل "المثلية" و"المساواة في الميراث" و"حرّية الضمير" وغيرها... أضف إلى ذلك ارتباط الديمقراطية في ذهنية شرائح اجتماعية عديدة بـ"المخدرات" و"الصراعات الحزبية" و"تفشي الإضرابات" في كل مكان و"التدخل الخارجي" و"تبخيس الشخصيات الوطنية" و"تمكين كلّ من هبّ ودبّ في أن يتكلّم في الشأن العام"، وهو ما أورث في نفوس العامّة نوعا من النفور وصل إلى حدّ النقمة على الوضع السياسي الجديد.
ولم تكن العدالة الانتقالية في هذا المسار الانتقاليّ بأفضل حالا من نظام الحرّيات، وذلك على الرّغم من أنّها شكّلت أحد الركائز الرئيسيّة لذلك المسار وتمّت هندستها وفق المعايير الدولية وبإحاطة كاملة من برنامج منظمة الأمم المتحدة، ولا سيما في ما يتعلّق باشتراط محاسبة الجلاّدين لإتمام تحقيق هذه العدالة على الصورة الأمثل. حيث إنّ مثل هذه المحاسبة لم يكن تحقيقها ممكنا في الواقع، نظرا إلى استفادة الجلاّد من اختلال موازين القوى لصالحه على حساب الضحية، وهذا عدا عن أن القيم الليبرالية التي تقوم عليها العدالة الانتقالية كانت تخدم مصلحة الجلاد لا حقوق الضحية. وهو ما نبهت إليه بالفعل "نويل كالهون" في كتابها حول "معضلة العدالة الانتقالية". ولعلّ التجربة المغربية في العدالة الانتقالية قد أدركت هذه الحقيقة، فاختارت أن تركّز على تعويض الضحايا دون محاسبة المذنبين.
أزمة الانتقال الديمقراطي أيضا هي في أحد مظاهرها جزء لا يتجزّأ ممّا أسماه عزمي بشارة بـ"الأزمة الدائمة للديمقراطية"، أي ذاك "التوتّر الداخليّ" الصميم النّاشئ في بنية الانتقال الديمقراطي من ارتباطه الآليّ الوثيق بالليبرالية، والّذي فسح المجال واسعا لبروز الخطاب "الشعبويّ" حتى يستثمر فيه وفي ما ينجم عنه من غضب اجتماعي لنسف المشروع الديمقراطي نفسه. وبقدر إصرار الشعبوية على أن تكون حركة معادية للديمقراطية (كما شدد على ذلك "ليبسيت" في كتابه "الإنسان كائن سياسي"، أو "ناديا أوربيناتي" في كتابها حول "أنا الشعب")، فقد نجحت مع ذلك في أن تستثمر في أزمة الانتقال الديمقراطي وإخفاقاته لتعلن نفسها بديلا عنه، بل ولم تتردد في سبيل كسب ولاء الجماهير من أن تستثمر في مختلف صعوباته: سواء منها تلك المرتبطة بالديمقراطية التمثيلية أو تلك المتّصلة بتوتر العلاقات بين الأحزاب وبصراع النخب وبضعف المنجز الاقتصادي والاجتماعي.
على أن ما ينبغي أن نسجّله هنا بخصوص علاقة الدولة الوطنية بالإسلاميّين هو أنّ ثنائية الـ"نحن" والـ"هم" أو ثنائية "الأخيار والأشرار" في الخطاب الشعبويّ لا تختلف كثيرا عن سرديّة الخطاب المتداول للدولة الوطنية نفسها، بل إنه ليلتقي معها في العديد من التقاطعات. ولذلك لم يكن من قبيل الصدفة أن تحتضن الدولة العميقة الخطاب الشعبوي بشكل لافت ودون تحفّظ. كما أن مفهوم "السيادة" الذي ما انفكّ الخطاب الشعبوي يلحّ عليه في محاولة للاستفراد بمصير البلاد ومستقبلها (كما أشار إلى ذلك "كارل شميت" في تعريفه) يذكّرنا هو الآخر بخطاب سياسي قديم طالما لوّح به نظام الاستبداد قبل الثورة للإبقاء على ديمومته ولحماية نفسه.
ومع أن كل التجارب تؤكد أن الشعبوية قلما أثبتت قدرتها على تقديم حلول ناجعة وحاسمة ومستمرة وأنها في أغلب الأحوال لا تعدو عن كونها حلقة جديدة في أزمة تأبى أن تعلن عن نفسها إلا بأشكال وعناوين ملتوية، فإنها قد نجحت إلى حد الآن في أن تعيد إلى النظام التسلّطي الذي كان سائدا قبل الثورة اعتباره وأن تجد معه مساحات التقاء كبيرة لم يتسن العثور عليها مع النظام الديمقراطي.
هذه إذن خلاصة سريعة للنقاط التي شكلت مقاربتنا لأزمة الانتقال الديمقراطي في تونس، والتي ارتأينا أن نبلورها بطريقة إشكالية من خلال السؤال التالي: كيف نفسر فشل الانتقال الديمقراطي بالنظر إلى طبيعة الأزمة السياسية التي شهدتها البلاد؟ وهو السؤال الذي قادنا إلى انتهاج خطة بحثية تمثّل رهانها الأساس في الرجوع الى منشأ الدولة التونسية، وهل الأزمة هي متأتّية من الوضع السياسي الراهن أم هي من صميم بنيتها العميقة. وعلاقة كل ذلك بأزمة الانتقال الديمقراطي، فاخترنا أن يكون الجواب عنه من خلال أربع فقرات: تنظر الأولى "في مظاهر الأزمة" وتبحث الثانية "في فشل التجاوز"، بينما تشتغل الثالثة على "الغلوّ (أو الشطط) اللّيرالي" والرابعة على "بروز الشعبوية".
على أننا لا ننسى أن ننبّه في هذا السياق إلى أن الحديث عن "الأزمة" وإن كان يجد مبرّره الموضوعيّ في حدّة الصراع الذي نشب بين فرقاء السياسة وفي عجزهم عن تقديم البدائل المناسبة، فإنه لا شيء يمنع مع ذلك من الإقرار بما في هذا المفهوم - كما ينبهنا الى ذلك زيجمونت باومان - من بعد إيجابي، لا بل ومبشر أيضا، وذلك من حيث إنّه يؤشّر في جوهره على الانتقال من وضع إلى وضع أفضل، من باب "اشتدي ازمةُ تنفرجي"، على حدّ قول الشاعر التونسي "ابن النحوي".
لكن والحقّ يقال فإنّ من يتمعّن في الوضع الراهن في تونس لن يصعب عليه إدراك أنّ الأمر أعقد من أن يكون مجرد أزمة عابرة، وأنه أقرب إلى حالة انسداد الأفق. وهو ما يعني أننا إزاء مأزق حقيقيّ، لا مجرد أزمة مؤقتة؛ مأزق لا يمكن تجاوزه إلا بإحداث تغييرات جذرية فيما يخص الحسم في مسألة العيش المشترك.