استمر العصر اليوناني حوالي ألفًا وأربعمائة سنة ، والقرطاجي ألف سنة ، والروماني حوالي ألفي سنة ، والإسلامي ألفا وأربعمائة سنة.… وعلى الرّغم من اختفاء التمثيلات الرسمية والقوى المركزية لهذه المجتمعات (أي الدول) ، إلا أن تأثير بعضها لا يزال فاعلاً وطويل الأمد في التاريخ ، سواء في الوجدان الجماعي أو في المراجع العلمية والأدبية والفنية.
ذلك ان اثينا-مثلا- مصدر الهام واضعي الفلسفة، امتد تاثيرها منذ القرن الخامس قبل الميلاد الى يومنا هذا، بالرغم من اندثار البناءات الضخمة فيها وتآكل تراثها المعماري. وفي المقابل تكاد اسبارطا، بلد اسكندر المقدوني والمحاربين الابطال، تكاد لا تُذكر الا من قبل المؤرخين، شأنهم شأن الماغول والتتار والفيكينغ والقبائل الافريقية المقاتلة، وكل الحركات التاريخية ذات الهدف غير الفكري اوالحضاري مثل الاتحاد السوفيتي. مثله -الاتحاد السوفيتي- مثل نظام قرطاج الاجتماعي عندما نقارنه بنظام روما.
فالأول لا يسمج بالصعود في السلم الاجتماعي، اذ البربري يبقى أبا عن جد في الموقع الاجتماعي الاسفل بالنسبة الى "القرطاجني، في حين أنّ الروماني يمكن أن يصعد في السلم الاجتماعي ويرتقي الى المراتب الاجتماعية العليا. ذلك أنّ من اسباب انهزام حنبعل في عقر داره كان مردّه انه لم يجد السند من البربر.
ولو قارنا بين الدولة الأموية والدولة العباسية ، فسنجد أن الأخيرة استمرت ما يقرب من خمسة أضعاف الدولة الأموية. وفي نفس الوقت، نجد أن العباسيين -بالرغم من فضاعة اغتصابهم للحُكم- ساهموا في العلوم والفنون والفلسفة ومجالات معرفية عديدة أكثر من الامويين. كما دام حكم المسلمين في الاندلس ما يناهز ثمانية قرون، انجبت فيها كبار المفكرين والفلاسفة والعلماء ساهموا في الحضارة الانسانية وأثروا فيها ايما تأثير.
والشاهد هنا، ان هتلر بترسانته العسكرية وجيشه العرمرم لم يحكم العالم، في حين ان كتاب ماركس -مثلا- ساد نصف العالم. ومن جهة أخرى، على الرغم من استعمار جلّ الدّول النامية (أو التي لم تواكب الانتقال المفروض من التشكيلات القبلية المحلية الى التشكيلات الاجتماعية ذات النطاق العالمي) بالقوة الصلبة، إلا أن أهمّ ما تبقى لهم هو الثقافة التي غرسها فيهم أو صدّرها اليهم المستعمرون، لذلك نجد البرتغالية كلغة رسمية في البرازيل، والإسبانية كلغة رسمية في الأرجنتين، والفرنسية هي اللغة الرسمية في معظم دول غرب إفريقيا، فيما الإنجليزية نجدها في معظم دول شرق إفريقيا، بما بتصاحب ذلك من ديانة مسيحية.
وقد يكون استهداف الثقافات (نمط السلوك ونهج تكوين الوعي والقيم) قضية رئيسية كان رأس المال على درايةٍ بها في حقبة مُبكرة واشتغل عليها لضمان استدامة الحضارة التي يحضنها..
وبالتالي نجد أن الشعوب المتخلفة حاليًا فقيرةٌ وجاهلةٌ وبالتالي عرضة للانبتات الحضاري، وبالتالي لخطر الزوال والتشظي لأنها توقّفت عن الاستثمار في الفكر والتفكير، ما لم تصحّحْ الموقفَ وتواكب الموجة الصاعدة الجديدة للاقتصاد السياسي الجديد الذي برزت ملامحه ممّا لا يقل عن عقد ونيف.
فالفكر يحدّد وعي الناشئة بالواقع ويدفعهم الى الفعل والتأثير فيه ويجعل انخراطّه في المتاهات عسيرا، في حين أنّ التهميش والاستثمار في التبلّد الذهني ينشئ شعبا انانيا وجبانا، لا يصنع التاريخ.
اخيرا، انّ الفكر باق لا يموت ولكن الاسوار والدبابات والمنشآت والطرقات السيارة والابراج.. كلها زائلة بالرغم من اثرها الفوري.