ذاكرتي مثارة منذ أيام ويخنقني الحنين وأشعر بعمري تضاعف في أيام قليلة وأهرب متشاغلا عني بهم ليس لي لكن أخدود الذكريات انفتح كبوغاز من ألم…
بعد فرح قصير بالنجاح حين شرب الحمار سينالكو (نص منشور منذ زمن ) عدت إلى واجباتي كراع يوجهني أبي حيث يشاء وقد بدأ يستشعر قرب هروبي إلى مكان بعيد يكرهه اسمه تونس. فكان كأنه يستغل آخر أيامي معه وليس لأبي توقيت عمل. لم أتفطن إلى وهن يصيبني كنت كلما هممت بجهد وهنت دونه لكني أكابر ولا انتبه. وحكت لي أمي ظهري بليفة نخلة فحسبت ظلوعي. قالت لأبي الطفل سيموت فقال لها ما به داء سيكبر وينسى. كانت رأسي قد صارت غير متناسبة مع جسدي فكأني أحمل فوق كتفي رزمة من حجر.
ذات عشية دعاني لأمسك كبشا متينا ليقص قرنيه كانا قرنا الكبش قد إلتوتا حتى أوشكتا أن تسملا عينيه وكان قص قرني الكبش يتم بكابل فرامل دراجة وهي حيلة لا تصدر صوتا فلا يجفل الحيوان. وضعت الكبش بين ساقي وأمسكت برأسه فيما أبي يحز القرن بالخيط المعدني فنفر الكبش من تحتي فأوقعني أرضا فلم استطع القيام. واصفر وجهي حتى ارتعب أبي وأيقن بأني مش لا بأس وبكت أمي وهي عادة تحبها.(باش تقتله الطفل الشفاعة يا محمد تقولش عليه مش ضناك).في الليل اتفق مع أخي على أن يحملني إلى طبيب فصبحنا في مصحة النجدة الحسنة بقابس أو ما يعرف هناك بكلينيك العرقي. لم يكن العرقي قد شرف المكان فطفنا في انتظاره بباب البحر ومررنا بمكتبة البشرواي فوجدت نسخة لبنانية من شرق المتوسط. سمعت عنها خبرا مثيرا فتوسلت لأخي أن يقتنيها ففعل قائلا ما شبعتش من القراية؟
الفحص الأول اقتضى الإقامة وتعليق السيروم والنصح بالراحة. في الليل فحصني العرقي بنفسه رجل ستيني حينها أشيب قوي البنية بنظارات طبية ووهرة طبيب كبير ولم يولني اهتماما خاصا .. بت هناك بخيط في ذراعي وبرواية في يدي وطاوعني نوم لذيذ لكني استيقظت باكرا ومن نافذة الغرفة كانت قابس نائمة بعد فأجهزت على روايتي لأتغافل عن جوع كافر.
بكر أخي بالزيارة وجاءني ببطيخة كبيرة وكسكروت حلو اقتناه من محطة اللواجات القديمة. أكلت بشراهة لم أعهدها حتى أني لم افتح البطيخة وكان يمكنني دون سكين. وكانت رائحتها قد ملأت الغرفة وشمها الممرضون خارجها.
انصرف أخي إلى شؤون يحسن ترتيبها وهو رجل لا يسير إلى شأن إلا إذا ضمه إلى شؤون كثيرة فلما جاء العرقي لفحص ثان. انتبه إلى البطيخة لكنه ركز مع مؤشرات المعلقة على حافة السرير .زم شفتيه وبدأت الأسئلة حتى عرف مشوار الباك ونتيجته كان يزم شفتيه ويسمعني ثم انتبه إلى الرواية فامسك بها وسأل آش تقرأ؟ قلت قصة موجعة ففتح الكتاب حيث انكسر فكانت صفحات التعذيب القاتمة. قرأ بصمت وتركيز ثم وضع الكتاب بلطف على حافة السرير. وقال لا تقرأ هذا حتى تتعافى قلت ما بي يا دكتور؟ قال أنت موفي قلبك قريب يسكت ما قعد فيك كان الرأس ...وأعاد الفحص كأنه يراني لأول مرة ...حتى أنه فحص أظافري العشرين...لم أفهم الاهتمام البالغ ...حتى قال لي بفرنسيته يا ولدي اهتم بصحتك هذه الكتب تقتل ...في الباب استدار وعاد وأخذ البطيخة قائلا ...أنا لا أعرف البطيخ وهذه رائحتها قلبت المصحة ..سآخذها ..أخذها مبتسما كالمعتذر وفي الفاتورة النهائية لم أجد كلفة الفحصين ...عدت بكدس من أدوية رممت بها وهني فلم يحل موعد السفر حتى كنت أقوى من الكبش الذي صرعني وكان في حقيبتي رواية منيف ...
منيف كان رفيق أيام الجامعة وقد سهرت معه ليال لا تحصى ...منيف صنعني روائيا وأنا مدين له...وأقيس به ما اكتب فأجدني مبتدأ وأقيس به ما يكتب غيري فلا يرضيني أحدا فأصمت ...منيف عالجني ولم يأخذ البطيخة... والعرقي كان طبيبا طيبا…
منيف فصلني عن أبي فتهت... حتى هذه اللحظة وأبي يقف فوق رأسي يقول لي ترفق بنفسك...لو لم أقرأ تلك الرواية في أول نشأتي واطلاعي لكنت قواد شعبة أو أفضل الحالات موظف ناجح إلى حدود رئيس مصلحة...لان وظيفة مدير مخصصة لزميلي من الحزب الشيوعي الذي كان ينتظر المدير في موقف السيارات ليحمل محفظته إلى مكتبه ...ويزيده قهوة وكرواسون من دي كارلو …
منيف حماني من وهن الروح وأبي ود لو كنت من صوان فلا أذهب إلى طبيب...لكني لما أصفر وجهي رأيت عينيه تمتلئان بماء غزير ...قبل أن يستدير..
علمني أبي أن أحيا بشرف وعلمني منيف أن لا أتنازل في ذوقي إلى مجاملة الكتبة مازلت أحمل فوق كتفي رأس ترهقني...ولم تعد لدي أم تحسب ضلوعي إذا تعبت... وتتشفع لي...منذ أيام اختبأت في جملة مغرورة (ليس المهم أن تأخذ الباك المهم ماذا تفعل بها)...هذه اللحظة أشعر بأني محتاج إلى نجدة حسنة .