نور الدين يا صاحبي، لا تتوقف عن الكتابة خصوصا عن الخسارات التي ربحناها، أيام الباكالوريا الشاقة والإقصاء والتمييز وإخراج الرأس من تحت الماء، إنما فيما أنت تكتب "أقسمت وبررت بقسمي أن يقرأ الناشئة أدبي في معهد الحامة"، أنا لم أكن أحلم يوم الباكالوريا بغير البقاء على قيد الحياة لكي أشهد على وحشية هذا العالم: ففيما كان التلفاز ينقل لنا زملائي يجتازون امتحان الباكالوريا 1986، كنت في الغرفة عدد 8 في سجن الكاف المركزي أتقيأ معدتي بسبب آلام غامضة ومبرحة في الأمعاء دفعتني إلى تقيؤ كل ما يدخل بطني حتى الماء وكان يخيل إليّ أن سوف أقذف رئتي وأمعائي من فمي، رماني أعوان السجن في غرف العزل لكي لا ألوث شيئا في الغرفة، قال لي أحدهم: "يمكنك أن تموت هناك في وحيدا هدوء" هل أقدر على وصف صمت العزلة والوحدة والخوف في الصغر في السجن ليلا؟ عندما تصبح ساعات الليل مئات الساعات في زمن آخر؟ عندما يدفعك الصمت الكوني والعزلة إلى استحضار آخر ذكرياتك بعدا، "يا رب، إني لست مجرما، يا رب، إني أصغر من تأخذ الدولة أي حماقة مني مأخذ الجد و خمس سنوات من السجن"،
لكني لم أمت خجلا من أمي، منذ أن أرسلتني وحيدا في السادسة من العمر إلى خالتها في ملاق على كتفي أبي رحمه الله، لكي "لا تصبح بغلا مثل أبيك"، لقد اجترحت حماقات كثيرة من وقتها بسبب العزلة والخوف، كنت في أوقات الخوف أو الجوع آكل طلاء الجدران في قاعة المدرسة والطباشير، أتبول على نفسي في القسم، إنما بشكل غير قابل للفهم، كنت الأول دائما، كانوا يضطروني للبقاء حتى الليل بلا عشاء في المدرسة لكي يأتي الزعيم بورقيبة ويقدم لي جائزة بعد أن يدفعوا أبي بعيدا عني وقد كدت أهلك جوعا وتوجسا إلى أن كنت من الأوائل إلى الثانوي في مدينة الكاف،
في الأثناء، فعل الفقر والحرمان فعلهما وأنا أرى عبث نباح كلابنا العربي أمام تركتور التعاضدية يهدم القوجة على حافة دوارنا على أرض أهلي في الناظور بعد أن صادرها صالح بن يوسف وأعطاها لواحد من صفاقس، جعلني ذلك ولدا مقاتلا شرسا في المعهد التاريخي الفني بالكاف يومي الأربعاء والجمعة لنقاشات نوادي السينما مع أستاذ الرياضيات غراش الذي كنت أرافقه إلى محطة الحافلات لنحمل على ظهورنا بوبينات أفلام الاعتراف أو حالة حصار أو الباب للمخرج اليوناني الجميل كوستا غافراس، أيضا احتفظت بالمناشير التي تنادي بالإطاحة بالدولة التي لم يكن لنا أي نصيب فيها ووزعتها بين الغرباء في سوق الخميس، تعرضت للإيقاف مرارا، علقني "عبد ربه" من رجلي في غرفة العمليات كما كان يسميها لكني لم أعترف بشيء أبدا، وآخر مرة في 1984 حذرني فيها أنه سوف يحدث لي عاهة تجعلني معاقا إلى الأبد،
عام الباكالوريا، ليلة الثالث عشر من جانفي 1986 وقف عند فراشي في مبيت الطابق الثاني في معهد تاجروين 22 عون شرطة وملازم وأربعة شيفان بأزياء قتالية داكنة وخوذ يتقدمهم مدير المعهد (حصلت على الرقم من بوليس من أهلي بعد الثورة): "أهبط يا ..."، ومن وقتها، في مركز شرطة تاجروين الذي كان يقع تحت مستوى الطريق، رأيت السيارات الفاخرة تتوقف لإخراج الأبناء من المحنة فيما أنا أجلد كل يوم على ساقي وألكم على وجهي، كنا 38 تلميذا موقوفين، بقينا سبعة، ستة منهم أعترفوا بأني أنا الذي حرضتهم على حرق المعهد مقابل السراح أحيلوا بحالة سراح على قاضي الأطفال ولم أعلم شيئا عنهم سوى أن أحدهم لم يحصل على الباكالوريا فأرسله أهله إلى العراق للدراسة لكنه انتهى بأن فجر نفسه في قافلة عسكرية أمريكية انتهت بقتل تسعة جنود أمريكيين،
السابع صديقي الجميل الذي أطرد بسببي من المعهد الثانوي بالكاف، قال لهم بشجاعة: "من غير ضرب: كسرت وأحرقت، أي" لكنه الوحيد الذي شهد بحقيقة أني لم أفعل شيئا، بعد ذلك دفع أهله ثروة حقيقية لكي يخرج من القضية تماما، فبقيت وحدي، نور الدين يا صاحبي لأني فقير، لم يفطن أبي إلى محنتي إلا يوم عرضي على حاكم التحقيق، عندما تسطر كل شيء فضربت حكما بالسجن لخمس سنوات ونصف قضيت منها ثلاث، أي؟ والباك؟
آخر أصدقائي المعدودين أعطوا كراساتي وما عثروا عليه من دروس إلى أبي ليسلمها لي في سجن الكاف على أساس أن أعد مثلهم لامتحان الباك بوعد مدير السجن لبعض أهلي أن يسمح لي باجتياز الامتحان مقيدا إن لزم الأمر، كان عندي من الإصرار والعزيمة من قلب المحنة ما يكفي للنجاح والتميز، في ماي رفضوا الحديث عن الموضوع، في أول جوان حسم الأمر: لن أغادر السجن إلا إلى المقبرة، لذلك تحولت معدتي إلى محرقة طيلة أكثر من أسبوع، الآن أفهم أن القهرة لها مظاهر فيزيولوجية،
يجب أن نكتب صديقي، ليس فقط لكي لا ننسى، بل لكي لا ينسوا، على أمل أن لا يكرروا ما اقترفوه في حقنا، الكتابة هي شرفنا الذي سوف نذهب به قريبا في ملف مضروب بالسفود إلى الله: لقد نشأنا من تحت الأرض وظللنا نقاوم بروح فوق طاقة البشر للبقاء، ماذا بقي لنا لكي نخبئه أو نخاف منه أو نتنازل عنه؟ ما مضى أكثر بكثير مما بقي،
الكتابة هي أفضل ما تم اختراعه لعلاج جراحات الذاكرة وترتيب الأشياء الموجعة التي لم تجد مكانها في البيت السري للروح مع التقدم في السن، في ديسمبر 1979 في مدينة الكاف (كان شتاء روسيا) كان عمري 14 عاما، تم إيقافنا نحن أربعة تلاميذ مراهقين في مظاهرات مساندة لنقابيي الثانوي وكان معنا شاب أكبر منا سنا، أسمر نحيف ذو شعر أشعث كبير مثل قبعة يعرف كل أغاني جيل جيلالة وناس الغيوان، كان يزعم أنه يتقن العزف على البانجو(banjo) والتام تام والنقارات، كنا مرتعبين خوفا وبردا وجوعا بعد منتصف الليلة الأولى في غرفة الإيقاف في مركز بن عنين بعد حصة ركل ولكم وشتائم. بدأ يدق بيديه إيقاعا غريبا على باب غرفة الإيقاف ثم أطلق موالا رخيما رائعا مخدرا للإحساس: "أيا ندامتي، ويا ندامتي، ومال كأسي حزين ما بين الكيسان"،
لم يكن سكرانا يغني، وبوليسية الحراسة نبهوه إلى أنهم سوف يجعلونه يكتشف الندامة في معانيها السافلة الوقحة، لكنه أضاف على الباب ذلك الإيقاع السريع الذي سوف يسحرني بقية حياتي مثلما لو كنت زنجيا في جنوب المغرب: "يا إلي ما شفتوني رحموا عليّ، وأنا راني مشيت، والهول الي إداني، والدي وأحبابي ما اسخاو بيا، بحر الغيوان ما دخلته بالعاني". انتهينا إلى رقص بوليسية الحجابة في غرفة الإيقاف، حتى قال له أحدهم: "لا تتوقف عن الإيقاع، وإلا سأطلق عليك النار"، وهكذا استمر في الغناء والإيقاع ولم يكن هناك من حل إلا إعادة أغنية "الله يا مولانا"، إلى الصباح. وأعتقد أن أحد أسباب سعادتي النفسية حتى اليوم هي أن أسمع أغنية الله يا مولانا التي تجعل رجال السلطة يرقصون، لأنهم بدأوا يرقصون على جثثنا هذه الأيام،
لا تتوقف عن الكتابة، استفزنا لكني نقرأ، ربما تشجعنا على الكتابة لأننا نخشى أن تفقد الرغبة في الكتابة في هذا الزمن الشاق،