عادةً ما تكون الازمات مُهينةً، مُرهقةً ومكلفة خاصّة عندما يضيق الافق وتغيب الحلول الفعّالة وتختلط الاسبابُ بالتداعيات والقراءات الذاتية والسطحية بالتحاليل الموضوعية اللازمة، والاجراءات المستعجلة بالحلول الهيكلية، والمهمّ بالاهمّ، ويصبح الوضع مؤهّلاً لكل السيناريوهات بسبب عدم السيطرة عليه. وهذا هو مفهوم الازمة في جوهرها.
فالأزمة "المفتوحة" (Crise Ouverte) هي عدم قدرة النظام (موضوع الحديث: الاقتصادي، او الاجتماعي، او المالي،.. او الفردي) على اعادة توالد ملامحه وخصائصه في الاجل القصير على الاقل. فترتفع البطالة ويقلّ النمو وترتفع الاسعار مع فقدان البضاعة وتنحدر العُملة ويتوسع العجز وتتفاقم الديون وتُنتهك بالضرورة القواعد المؤسسية عمومًا، بل تُوظّف لصالح من تبقى من مستفيدين، وتتوسّع الفوارق الاجتماعية وتنحصر قوة الدولة في حماية وجودها كأولوية مطلقة، متنازلةً عن جزئها النّاعم وبعضٍ من وظائفها لفائدة جزئها الصّلب، وتُفقدُ الثقةُ ضمن مكونات المجتمع والفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين وكذلك الافراد، وتُستهلكُ المفاهيمُ الى حدّ افراغها من محتوياتها بحكم تداولها ضمن السّواد الاعظم من الناس -وهذا طبيعي جدا- وتتعالى أصوات النشاز وتخفت الاصوات غير التقليدية (Hétérodoxes) امام واقع جامد، يبهت له الكلّ وكأنّهم في انتظار ما خبّأته الايام…
فيتعلّق الناس ببصيص امل مهما كان مصدرُه حتى وان كان سرابا، وتتوجّه الانظار والعقول نحو اي حدث قد لا يكون له أثر على واقعهم الموضوعي.
ولكن، يُعلّم تاريخُ جل الازمات المفتوحة انّ الفترات التي تليها تكون عادةً ازدهارًا واستقرارا، حتى وان كانت تحمل -هي الاخرى- في طياتها عناصر الازمة الكامنة (Crise Latente)(يحتاج الى تفصيل)، كما تراكمت واختلفت وجهات النظر في الادبيات حول الملامح الاساسية للازمات، وانّها يمكن ان تتحوّل الى فُرص قد لا تُعاد.
ذلك انّ وقت البهتة والانتظار بدون القدرة على تغيير الواقع والوقت الضائع في الهرطقة الفكرية والاستثمار في الازمة بهدف المحافظة على مواقع الريع… ًعوضاً عن ذلك، تكون فترة الازمة فرصةً للنظر في المراجعات واعادة هيكلة المؤسسة سواءً كانت انتاجية، خاصة او عامة، اجتماعية، اعلامية او غيرها.
فما رأيكم لو انكبّت كل جهةٍ معنية بهذه الازمة المفتوحة على العمل على مراجعات أخطائها والاستعداد الى اعادة الانطلاق على أسس سليمة، بهدف ان يأخذ راسُ المال -أو جزءٌ منه- طريقًا اكثر إبداعًا واستثمارًا في راس المال البشري وان يبتعد عن مسالك الربح السهل وعن الانخراط في سُبل الضغط، وان تبتعد حلّ الاحزاب السياسية عن الانتهازية والنظرة قصيرة الامد لمستقبل البلاد، وان يراجع الاعلام ادواره الاساسية بحيث يتجه نحو المساهمة في الارتقاء بالوعي الجمعي وبالذوق العام وان يكفّ جزءٌ منه عن الاستثمار في التبلّد الذهني وفي هتك ذوات الناس وفي تضخيم التوافه والتغافل عمدًا عن امهات القضايا، والاّ يستمرّ وزراء التربية والتعليم والثقافة المتعاقبين في استغلال هذا المجال بانتحال سجيّة الصغار والانحراف عن شروط الثقافة الوطنية والتعليم الديموقراطي الحقيقيْن، وان تنخرط النخبة المثقفة في تعميق الوعي بالمسائل المشتركة وبنفس المسافة من النخب الاخرى وبدون انتظار "مردود شخصي"، يميطون الغشاء عن كل المشكلات بموضوعية وينددون بكل من انحرف عن الموضوعية الى ان يُصبح الامرُ ثقافةً، وان تستعيد الدولةُ "دولتها" في الشكل الذي يرتضيه الناس سواءً بتغليب الوظائف الاجتماعية والسيادية، او بالوظائف التعديلية، او غير ذلك.
هذا، ويمكن عندئذ ان تتوفّر شروط الالتفاف حول الدولة وبرامجها ويمكن حينئذ الحديث عن التغلّب عن الازمات.