ليس مستغربا وجود أشخاص ضعاف النفوس في مختلف القطاعات، بما في ذلك في الصحافة والقضاء.. وبالتالي ليس مستغربا وجود قضاة باعوا ضمائرهم، سواء طمعا في منصب، أو تزلفا لصاحب سلطة أو صاحب مال، أو تصفية لحسابات شخصية أو إيديولوجية..
قضية التآمر على أمن الدولة كما يسمونها، فضيحة قضائية بكل المقاييس ووصمة عار في جبين كل من ساهم في صنع تفاصيلها. آخر حلقة في سلسلة الفضائح المخزية المرتبطة بهذه القضية، صدور قرار عن حاكم تحقيق المكتب 36 بقطب الإرهاب، بمنع التداول الإعلامي فيها..
لن أصف السيد حاكم التحقيق احتراما مني لمكانته، بالغباء إذا كان متصورا بأننا سنرضخ لقراره الأخرق، وسنسكت عن كشف الظلم والجرائم المرتكبة باسم القضاء إرضاء لهوس حاكم مستبد.
لن أصف السيد حاكم التحقيق، احتراما لمقامه أيضا، بخدمة ركاب الاستبداد واستخدام سلطته القانونية للزج بأبرياء في السجن استجابة لرغبات الحاكم بأمره. فذلك متروك لساعة الحساب الآتية لا ريب فيها، والتي سيكرم فيها المرء أو يهان بحسب مدى احترامه للقانون التزامه بإعلاء راية العدل وانتصاره للحقيقة وحدها..
لكن سأناقش السند القانوني لقراره الفضيحة المتعلق بمنع التداول الإعلامي في قضية التآمر المزعوم، طمسا للحقيقة وتغطية على ما يحصل من تعسف وقهر وظلم..
القرار المهزلة استند إلى:
أولا- الفصل 30 من دستور قيس سعيّد، الذي ينص على حماية الدولة للحياة الخاصة وحرمة المسكن وسرية المراسلات والاتصالات والمعطيات الشخصية…
ثانيا- القانون الأساسي عدد 63 لسنة 2004 المتعلق بحماية المعطيات الشخصية.
ثالثا- الفصل الأول من المرسوم عدد 115 لسنة 2011 المتعلق بحرية الصحافة، الذي نص على أنه لا يمكن التقييد من حرية التعبير إلا بمقتضى نص تشريعي وبشرط أن تكون الغاية منه تحقيق مصلحة مشروعة تتمثل في احترام حقوق كرامة الآخرين أو حفظ النظام العام أو حماية الدفاع والأمن الوطني…
رابعا- الفصل 5 من المرسوم عدد 116 لسنة 2011 المتعلق بالاتصال السمعي والبصري، الذي ينص على أن الحقوق والحريات تمارس على أساس المبادئ التالية:
*احترام المواثيق المعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان الحريات العامة.
*حرية التعبير…
وتخضع ممارسة هذه المبادئ لمجموعة من الضوابط من بينها حماية الأمن الوطني والنظام العام…
خامسا- القانون عدد 26 لسنة 2015 المتعلق بمكافحة الإرهاب.
ولم يكتف السيد حاكم تحقيق المكتب 36 بذلك، بل وجه قراره لرئيس الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري طالبا منه تنفيذه، وكأنه موظف يشتغل تحت إمرة جنابه.
هذه هي السندات التي بنى عليها السيد حاكم التحقيق قراره.
شخص مخفي الهوية يسمونه xxx يتقدم بوشاية لوكيل المزرعة يعلمه فيها بتلقيه مكالمة هاتفية من قريبه في بلجيكيا يعلمه فيها بأن التونسيين في المقاهي هناك يتحدثون عن مؤامرة لقلب نظام الحكم، وأن قريبة كمال اللطيف لم تجد مكانا غير مقر السفارة التونسية تجتمع فيه مع دبلوماسيين وأمنيين لإعداد الانقلاب، وأن قريبته في بريطانيا أعلمته بأن أحد معارفها في الولايات المتحدة أعلمها بوجود ترتيبات لعقد لقاء مع عراب الانقلابات في المنطقة برنار هنري ليفي.
وبناء عليه يتم اعتقال عدد من قادة المعارضة، وبالتفتيش في هواتفهم عثر على محادثة بين خيام التركي ودبلوماسية أمريكية تطلب فيها التعرف على جوهر بن مبارك وشيماء عيسى، فيتم اعتقال المناضليْن السياسييْن بتهمة التخابر مع جهات أجنبية. قبل أن يتم التراجع عن هذه التهمة بالنسبة للدبلوماسيين الأجانب مع الاحتفاظ بشيماء وجوهر في السجن.
ما علاقة هذه الفضيحة المخزية التي كشفناها وقمنا بإبلاغها للرأي العام، بمجموع النصوص القانونية التي اعتمدها حاكم تحقيق المكتب 36 لتبرير قراره الأخرق؟
الاستثناء الذي تناوله المرسوم 115 يتم بنص تشريعي، أي بقانون. فبأي حق ينصب السيد حاكم التحقيق نفسه مشرعا صانعا للقانون؟
المرسوم 116 ينص أن رئيس الهايكا هو وحده المختص باتخاذ قرارات المنع بناء على ما يصله من إفادات.
وما كان على حاكم التحقيق سوى أن يعلم رئيس الهايكا بما يعتبره تجاوزات ويلتمس منه اتخاذ ما يتناسب من قرارات. أما أن يتخذ القرار ويطلب منه تنفيذ وكأنه عامل في مزرعته، فتلك وقاحة ما بعدها وقاحة.
سيدي حاكم التحقيق 36، ومع احترامي لمقام لم تحترمه، لو كنا في امتحان وكنت طالبا عندي، لأسندت لك العدد 20/0. قرارك الأخرق نفّخه واشرب ماءه.