كانوا يريدون بلدا بلا إسلاميين فلم يعد لديهم بلد يمارسون فيه هوايات الاستئصال.. وقع السقف على رؤوس الجميع، وفي زمن لاحق سيوزع التاريخ المسؤوليات ويتحمل كل طرف وزر أفعاله أمام شعب غائب مغيب لكن له ذاكرة.
اللحظة تقتضي مراجعات جذرية والمراجعات أثقل وزرا من ممارسة سب الانقلاب ومدح معارضيه؛ تبدأ وجهة نظري المراجعة من النقطة التالية: لولا المعارضة الحالية للانقلاب ما كان الانقلاب، لذلك فإن إعلاء الصوت ضد الانقلاب لن يبيّض عندي من مهّد لحدوثه، والكارت الأبيض هو خديعة ثانية على عتبة مستقبل لا شك فيه. أليس في هذا تعميم مخل بالحقيقة؟ نعم توجد أقلية ثورية صادقة ترتقي إلى مقام أئمة المواقف السليمة، لكن فيهم عيبا عظيما؛ إنهم أعجز من أن يتفقوا على موقف قادر على التجميع، كلهم أعلام أو قمم لكن القمم ترفض التلاقي. النرجسيات الثورية عجز آخر، وتحمّل كلفته غباء آخر.
وصلنا إلى حقيقة جلية كانت مبثوثة في كتب كثيرة لكن الربيع العربي جمعها بين أيدينا: لا يمكن بناء الديمقراطية تحت الاحتلال. الوجه الآخر لهذه الجملة هو: تبدأ معركة بناء الديمقراطية مترادفة مع معركة تحرر وطني ظن الناس أن قد اكتملت في الخمسينات، فانكشف زيف الاستقلال بقوة الثورة مما أعاد البوصلة إلى شمالها: التحرر السياسي من الاحتلال غير المباشر وبناء الديمقراطية السياسية فعلان متلازمان في الزمن والمكان.
ممنوع التحرر
لنربط بسهم كما في الكتب المدرسية للمبتدئين، لنتخذ نقطة بداية من بين أحداث كثيرة؛ تأميم الإيراني محمد مصدق للنفط في الخمسينات ووضع ملك السعودية نفطه في معركة تحرير الأرض المحتلة، مرورا باشتغال كومة مرسي على الاكتفاء الذاتي الغذائي، وصولا إلى الاستقلال الاقتصادي التركي تحت حكم أردوغان.. كلها أفعال تحرر سياسي بالاقتصادي تعرضت للتخريب ثم العقاب التأديبي بالقتل والانقلابات.
الانقلاب على انتخابات الجزائر في التسعينات، والانقلاب على انتخابات فلسطين حين انتصرت حماس، وتخريب التجربة الديمقراطية المصرية والتونسية بعد الربيع العربي (تدمير اليمن وسوريا جزء من الخطة).. كل تلك الانتصارات كانت خطوات تحررية والانقلاب عليها كان عملا احتلاليا قهريا لا يهتم لعدد القتلى. الخلاصة: ممنوع على سكان هذه المنطقة أن يتحرروا وأن يبنوا تجاربهم السياسية المستقلة (تعرضت مناطق في أفريقيا وأمريكا اللاتينية إلى قهر مماثل بنفس الطرق؛ نذكر بها حتى لا يظن بنا نواحا عربيا يدمنه كتّاب كثر وبعضهم من جماعة الإسلام في خطر). وماذا بعد التذكير بحقائق معروفة؟
المراجعة تبدأ من هنا
فشل أبناء الثورة وحماة الديمقراطية في حماية المكتسب السياسي القليل، وعليهم الإقرار أولا بفشلهم دون تزيين اللحظة بمكاسب أخيرة وقليلة متبقية مثل أنهم يكتبون بحرية في السوشيال ميديا.
لقد بنى الفرحون بالثورة كل عملهم السياسي على أنهم تيار من شعوب مستقلة وفي بلدان محمية بقوة جيوشها، وأن ديمقراطيتهم ليست مؤذية لأحد، ولم يروا نظام المصالح الخارجية يتعرض للتهديد. نظام المصالح الخارجية ووكلاؤه المحليين خافوا من الديمقراطية التي فتحت باب الأسئلة الجذرية حول حقيقة الاستقلال والسيادة والتصرف في الثروات (من ضمن قضايا أخرى أكبر كتحرير فلسطين)، لقد فتحت الديمقراطية باب الجرأة على محاسبة المحتلين، وهذه الوقاحة لا يمكن التسامح معها منذ البداية.
نعم كانت هناك صعوبة منهجية في التوفيق بين بناء الديمقراطية واستكمال أو تصحيح التحرر الوطني المغشوش، هذا الخطأ المنهجي نعرف الآن نتيجته؛ لقد مسحت الثورة من الذاكرة. لماذا هذا الخطأ؟ إجابتي بسيطة لأن الطبقة السياسية المعارضة قبل الربيع العربي والتي زعمت بناء الديمقراطية بعدها لم تملك خطة تحرر، وكان كل همّها (زعماء وأحزابا) هو أخذ جزء من السلطة لنفسها والتصرف فيه بنفس طريقة الأحزاب والأنظمة التي قامت ضدها الثورة. أي إعادة انتاج الأنظمة نفسها بأسماء وبدلات جديدة وعلى نفس الكراسي ربما استبدال السيارات الرسمية بأخرى أكثر رفاهية.. أصِل إلى قناعة بدون ذكاء: كثير من المعارضين القدامى من كل الطيف كانوا ينافسون من في الحكم على مكاسبه وليس على تحرير البلد المحتل. هذا سر القفز إلى الانتخابات، وهذا سر الفشل في الإدارة، وهذا سبب الانقلابات، وهذا سبب عدم الانسياق مع هذه المعارضة مرة أخرى في أي مشروع؛ لأن كل همها مرة أخرى هو استعادة جزء من السلطة.
إنها تراقب بيع البلد بالقطعة (تونس مثالا)، لكن ذلك لا يوحدها في قضية شاملة، إنها تتقن جمل البكاء على الحريات دون أن يرتقي وعيها وخطابها إلى وحدة سياسية تضع معركة الحريات ضمن معركة الاستقلال، لا بل نسمع بعضها يتظلم للمحتلين طلبا لنصرة ضد انقلاب، كأن الانقلاب يملك زمام نفسه أو هو فعل قوة وطنية مستقلة وليس من صناعة المحتلين المعادين للديمقراطية.
من خلف الحاسوب قل ما تشاء
أسمع قارئا يقف عند العنوان ويرجمني بها فأرد عليه بجملة واحدة: أنت تحملني وزر أخطائك ولهفتك على السلطة ومنافعها، لهفتك أودت بك لأنك لم تر عدوك المتربص في الداخل والخارج، وأراك لا تزال أعمى دونه وتحليلك قاصر. لقد سارعت إلى المنفعة المنقوعة بذل الاحتلال، وسواء مررت بوزارة أو بمقعد برلماني ودافعت عن حكومات أو عارضتها فأنت كنت ملهوفا إلى جمع فيء معركة لم تكتمل. لماذا تحملني وزر أخطائك؟ وتصر بعد على أنك كنت على صواب؟ ألا تراني من ضحاياك؟ إذن أنت لم تفهم ما أصابك ولم تر ما أصبتني به.
"هذا كلام يصب في طاحونة الانقلابات".. أرد ببساطة: هذه جملة هاربة من نقد تجربتها ولا تقر بأخطائها الكارثية على الثورة. لن أورد أسماء هنا فبعضها في السجن ويستحق التضامن، ولكن لننه التضامن الأعمى مع القيادات العمياء سياسيا، إن التاريخ يؤدبها بأسلوبه.
هل يمكن إنقاذ البلد من السقوط (تونس أو مصر سواء والاختلاف في التفاصيل الصغيرة)؟ بداية الإنقاذ تكون (وهذه حقيقة وليس مزايدة) تسمية قوى الاحتلال بأسمائها وعدم الوقوف أمام سفاراتها وانتظار بيانات يسارها الثوري الواقف دوما مع حق إسرائيل في الوجود، فالخريطة واحدة والمعركة واحدة ولا يمكن التوافق في معركة تحرر مع الوكيل المحلي للمحتل ولو تظاهر بالديمقراطية.