ثمة مشهد قاس عشته عام 1975 وأنا في العاشرة من العمر وفشلت في ترتيبه في ذاكرتي بأي شكل أدبي أو حتى دفنه في خيالات الطفولة: عند الثامنة صباحا وشوية من شهر فيفري في قسم الرابعة ابتدائي في مدرسة ملاق الابتدائية، كان المعلم يضرب بطلاسة خشبية صبيّة في عمري من ريف المقاديم الواقع على ضفاف وادي ملاق العظيم على ظهر يديها، هو أصلا، لا أحد يعرف لماذا كانت الدولة تفرض على أطفال الأرياف أن يستيقظوا عند السادسة صباحا ليبدأوا الدراسة عند الساعة الثامنة فيما يبدأ سكان القرية الساعة العاشرة، ثم لكي نتسكع نحن الريفيون "الأهالي" في قرية عدائية إلى الساعة الواحدة بعد الزوال في حصة من ساعتين،
الصبية كانت تجلس معي في الطاولة المزدوجة بحكم المعلم، ذات شعر بني مائل إلى الأصفر في ضفيرتين إلى آخر ظهرها وعينين خضراوين ساحرتين وكان ذلك شائعا عند أهلي، أنا لم أعد أذكر لماذا غضب عليها المعلم لكن من المرجح أن ذلك كان بسبب مزاجه الفاسد فهو أعزب مطرود من مدارس أخرى، إنما كانت بسبب البعد وحياة الريف تأتي أحيانا متأخرة وأحيانا كثيرة لا تعد دروس البيت وأذكر مرة أنها جاءت ملوثة بروث البقر لأنها وقعت وهي تغادر بيتهم الريفي في الاسطبل، أيا كانت الحال، ذلك المعلم لم يكن يحبنا وكان يضربنا لأي سبب ويشتمنا ويدعونا إلى الانقطاع عن التعليم والسروح بالدجاج والخرفان، وأنا كنت أشتاق إلى ألفتها وعينيها الحالمتين التي توحي بأنها تفهم كل شيء في الطفولة والرفق،
أخوها الذي يفوقها بعام، وهو أيضا له عينان خضروان، كان رسب في الرابعة ليصبح معنا لأنه كان يقضي أغلب وقته في مساعدة أبيه وكان أكثرنا تأوها وأذكر أنه قام مرتين من مقعده لكن المعلم هدده فعاد من وسط الرواق الذي بين الطاولات، لم تكن تبكي بل كانت تتلوى وتنتحب في صمت ونحن نشد الدموع بالسيف، نتأوه معها في ذلك الصباح البارد من شتاءات الكاف القاسية عندما كان الماء يتجمد في الأودية وكان إخراج اليدين من الجيوب عملا مضنيا، وكانت أصابعنا ترتعش بالبلومة في المحبرة قبل اختراع الأقلام الجافة، زمن الأحذية المثقوبة المرقعة على عجل وبوطات البلاستيك متاع الإعانات، إيه والطفلة؟ قضت بقية الحصة من الثامنة إلى العاشرة تتعصّر وتتلوى في صمت وتنفخ على يديها مثلما تنفخ على عصفور مبتل، وعندما غادرنا القسم كانت كلتا يداها قد انتفختا واتخذتا لونا أزرقا مخيفا ونحن نساعدها بصب الماء المتجمد على يديها، عند منتصف النهار تحولتا إلى شيء أزرق مخيف وموجع جدا مثل كرشة علوش العيد وكانت تبكي وتقول إنها سوف يقطعون يديها وستصبح بلا يدين،
أخوها لم يحتمل ذلك، عند منتصف النهار كان يبكي معها ونحن نتجمع حولها وقرر أن يعود بها إلى "بابا" الذي يعرف كيف يرتب هذا الأمر. عند الساعة الثانية بعد الزوال، كنا نرى معلمين يتشمسون أمام مدخل المدرسة وكنا في قاعة الدراسة حين اقتحم علينا أبوها قاعة الدرس مثل عاصفة لكن مع المعلم الخطأ، كان فلاحا أميّا في المقاديم، قصير القامة لكنه ممتلئ وقوي بغطاء رأس كبير إنما كان غاضبا ويوحي بأنه رجل يجب أن تأخذه مأخذ الجد عندما يغضب ثم توجه إلى القاعة المحاذية حيث يوجد المعلم الذي ضرب ابنته، وسط الضوضاء وصراخ "سيبني، أجرولي راهو باش يقتلني" خرج معلمنا وخرجنا معه وقد دخلت بعضها لنجد الفلاح يجر المعلم من عنقه وقد أحكم قبضته عليه وهو يضربه على وجهه، "توه نوريك الرجولية؟" يقول له وهو يجره إلى وسط الساحة وجعل يلكمه على وجهه حتى "خنفره" حقا وأصبح منديله الأبيض ملوثا بالدماء، "نقتلك" قال له مرارا.
يا خويا، وجاء العمدة والقوادون ثم الحرس والعاصفة كلها وقتلوا الراجل حقا بالضرب، كلهم تحاموا فيه ويضربونه من كل جهة وهو يقاتل وحده وابنته تندب وجهها وابنه يصرخان "قتلوا بابا"، حدث كل ذلك في ساحة المدرسة أمامنا ونحن في العاشرة من العمر "طينة طيّعة" للرعب نحاول أن نفهم المعنى المبهم للعدالة والعقاب المدرسي والحق وسبب الضرب على ظهر اليدين إلى حد انتفاخهما وزرقتهما، الراجل الأب جروه من ساقيه بعد أكثر من نصف ساعة من القتال الدموي فاقدا للوعي وسط نواح ابنته التي قالت اقتلوني مع بابا وابنه الذي هدد بأن يجلب المقرون (بندقية الصيد) لكي ينتقم لأبيه، إنما حملوه إلى مركز الحرس الرهيب في دشرة نبر حيث قضى أكثر من أسبوع يأكل الضرب وتفخر فيه إلي ماشي وإلي جاي لإعادة ترتيب السلطة،
إنما، ما أعجز عن ترتيبه في ذاكرتي أن الصبية ذات العينين الخضرواين والظفيرتين الذهبيتين لم تعد إلى المدرسة أبدا وظل مكانها الأليف فارغا مبهما إلى آخر العام الدراسي، لا هي ولا أخوها وانقطع ذكرهما من حياتي وبقي لي وجع الذكرى مثل الإحساس الغادر بعضو الجسد المقطوع، كان يمكن لتلك الطفلة أن تكون طبيبة أرياف وأمراض معدية مثلا، كان يمكن أن يكون أخوها مهندسا، صانع ثروة وأفكار وعلوم، لكني رأيتها وعرفتها من عينيها الخضراوين نهاية عام 1985 في سوق دشرة نبر وهي تستعد لامتطاء سيارة "كات كات باشي" وهي تحمل رضيعا في حضنها وتأكدت أن يديها كانتا سليمتين تماما، إنما لم أتأكد منها حقا إلا لما تعرى نصف ساقها لثوان وهي تمتطي الصندوق الخلفي للشاحنة التاريخية، هي أحست أنها تعرت فالتفتت لترى من تلصص على حميميتها فضبطتني متلبسا،
أنا عرفتها من عينيها الخضراوين الوادعتين وهما تشتمان اهتمامي بما تعرى من جسدها، ظفيرتاها كانتا كما أعرفهما بالطول واللون الذهبي، تعمدت أن تطيل النظر إليّ ثم في الفراغ وهي تمد يدها إلى ابنها الذي يجيب أن يكون عمره أكثر من أربعة أعوام لكي يلتحق بها إنما أنا متأكد أنها تذكرت لحظة الطفولة البريئة مع التلميذ غريب الأطوار الذي يجلس إلى جانبها في الطاولة المزدوجة ويأكل الطباشير ولحاء الجدران ويتسلق شجرة التوت في ساحة المدرسة ببراعة القردة منذ أن أودعه أبوه من سركونة إلى مدرسة ملاق عند خالته دادا الزهرة العظيمة، التي تطفح زيت الزيتون في وادي ملاق العظيم في قصعة من الخشب وكلبها الأليف "سخاب" الذي طالما قاتل معها كلاب دوار الشعاشع لتعيدني إلى بيتها الجميل،
يا لخراب الأشياء الجميلة الحالمة في هذا العالم، هل يمكن أن تصبح كل هذه الأشياء بلا معنى حقا؟ لقد هبت رياح محنتي بعد ذلك وأنا أنتقل من معهد إلى آخر حتى حطت رياح المحنة في مدينة تاجروين في مرمى سهوب ونزة الجزائرية وأنا "كاليتيم على آخر بيت مضاء" عاطفيا، وتناولتنا السجون وعنف الدولة وكدنا نروح فيها لولا ذكريات جميلة كنا نقاوم لكي نقنع أرواحنا المعذبة بأنه كانت لنا ذكريات جميلة وعيون خضراء حالمة وشعر ذهبي طويل في طفيرتين ومدرسة وطفولة حالمة وساعات حزن وصدمة نفسية عميقة بسبب الأب الذي قاتل بضرواة عن ابنته فكادوا يقتلونه، تذكرتها مرارا قليلة وأنا أستعرض ذكرياتي كل مساء حين ينام سجن القصرين المركزي وأنا في قسم العزل معولا على ذاكرتي للبقاء على قيد الحياة ولكي أثبت لنفسي أني كان لي تاريخ وحياة وذكريات، لقد كان في مقدوري أن أرسم عينيها وظفيرتي شعرها على جدار غرفة العزل بأظافري،
في 2009، خطب أبناء أحد أقاربي غير المباشرين في دشرة نبر صبية صهباء جميلة ذات عينين "شهل" وشعر بني في ضفيرتين طويلتين، جمعت بين الشهائد الجامعية وعقود العمل خارج الوطن وكان شرط أمها أن يكون خطيبها أكثر منها ثقافة وعلما، وكان لها ذلك فعلا، قدموني إليها على أني من مثقفي العائلة، صحفي وكاتب وبرشة كلام بلا معنى ومكلف بحمل الخطيبة من الحمام إلى بيت أمها، والله هي مرة أخرى رأيتها في المرآة العاكسة الداخلية وابتسمت لي، أي، أما الطفلة هي، كأنها لم تكبر، والله بعينيها الخضراوين وهدوئها التاريخي في أشد العواصف عنفا غير ضرب أبيها أمامها، الأم تركت لي انطباعا أنها قد قاتلت بضرواة للتعويض عن مشهد ضرب أبيها، لم أجرؤ على سؤالها حول ذلك اليوم الحزين، لكني لم أقدر على ترتيب ذلك في ذاكرتي، ما يزال موجعا أخاف من استحضاره، نظرة البنت الصبية لأبيها وهو يضرب جماعيا؟ أنت تنجم تشوف حاجة مثل هذه وتبقى سليما؟
يا رب، خذ في الحسبان أن أجسادنا كبرت وبقيت أرواحنا طفولية، حيث في العاشرة، عاجزين عن تقبل الأشياء الشنيعة والظالمة، وأننا لم نشف من أوجاع تلك الأشياء المشينة، يا رب، لا تجعل طفلة ترى أبيها يضرب أمامها، ولا تجعل الأطفال يرون ذلك، وإن تعذر، فلله الأمر من قبل ومن بعد،