قال رئيس الجمهورية قيس سعيد يوم الأربعاء 02 أوت 2023 «أن الحركة القضائية سيتم الإعلان عنها قريبا، داعيا القضاة إلى ضرورة لعب دورهم . وقال رئيس الدولة خلال إشرافه على تسلم أحمد الخشاني لمهامه كرئيس للحكومة، إنه دون قضاة مستقلين لا يمكن مواصلة الطريق، مطالبا القضاة بتحمّل مسؤولياتهم » بحسب إعلام نشرته صفحة الرئاسة .غير أن الخطاب تغير بعد يوم واحد . ففي لقائه يوم الخميس 03 أوت 2023، بقصر قرطاج بمنصف الكشو رئيس المجلس الأعلى المؤقت للقضاء ووزيرة العدل كل على حدة ، جرى الحديث مع الكشو حول، « مشروع الحركة القضائية للقضاء العدلي للسنة القادمة وأكد رئيس الجمهورية مجددا ضرورة أن ينخرط القضاة اليوم في معركة تطهير البلاد ممن أجرموا في حقها، لافتا إلى أهمية استقلالية القضاء والقضاة في إطار مسؤوليتهم في فرض احترام القانون و شدد في هذا السياق على ضرورة البت في عديد القضايا التي بقيت منذ أكثر من عشر سنوات تنتقل من طور إلى آخر بحجة احترام الإجراءات، من اجل تحقيق المحاكمة العادلة لا الإفلات من العقاب « ، بحسب بلاغ لرئاسة الجمهورية.
من حركة قضائية إلى مشروع حركة قضائية
رغم أن خطاب قيس سعيد حول التطهير وحول تقسيم القضاة إلى شرفاء وآخرين يجب أن يكونوا محل تطهير خطاب مكرور، ممجوج . فهو الاستقطاب الذي يحكم كل خطب الرئيس والذي يقسم البلاد جميعها إلى وطنيين صادقين وخونة ، إلى مدافعين عن مصالح الشعب و من نكلوا به ، فتلك من طبائع الخطاب الشعبوي يلقي إلى الجموع فاكهة الشعبويين جاهزة للاستهلاك وخاصّة من تلك الفئات غير المؤهّلة بحكم فقر زادها المعرفي لفهم طبيعته و هوسه بالثنائية فهو غير منشغل بفهم الواقع والبحث عن حلول للمشاكل المتراكمة والمعقدة بل عن مؤامرات ودسائس هنا أو هناك يغطي بها فشله . رغم كل ذلك من المرجح إن هذا الخطاب يحتوى على فائض دلالة هذه المرة فقد يعني في هذه المناسبة بالذات أكثر مما يتحمله عادة من معان . فليس من المستبعد أن يكون على صلة بتعطل الحركة إذ قد يكون المجلس الأعلى المؤقت للقضاء قد اقترح صيغة أولى للحركة القضائية ( او مشروع الحركة القضائية كما جاء في بلاغ الرئاسة الثاني) على قيس سعيد الذي رفضها مما يجعل هذا الخطاب مبررا للتأخير وتعللا بنفس الحجج لمزيد إخضاع المجلس وابتزازه .
لا احد على وجه الدقة يعرف سبب تأخير صدور الحركة بعد الإعلام منذ أكثر من أسبوعين عن قرب صدورها مما يجعل مقالتنا فريسة التكهنات والتوقعات لا أكثر . غير انه من المرجح أننا مقبلون على سيناريو مشابه لسيناريو السنة الماضية من الأخذ والرد وان كان في تقديرنا انه على خلاف السنة الماضية ستصدر الحركة في أخر الأمر قريبا من تاريخ افتتاح السنة القضائية الجديدة منتصف شهر سبتمبر .
تحكم السلطة السياسية في مفاصل الحركة القضائية
هذا السيناريو من شد الحبل بين المجلس والرئاسة ومن ورائها وزارة العدل دشنه تطبيق المرسوم عدد 11 لسنة 2022 المتعلق بإحداث المجلس الأعلى المؤقت للقضاء والذي أدى إلى تحكم تام لرئيس الجمهورية في الحركة القضائية إذ أصبح صدورها يخضع إلى إجراءات معقدة تؤول في أكثر الأحيان إلى عمليات مكوكية بين المجلس والرئاسة دون أن يخضع صدروها لأي أجل. أما الأجل المقرر في القانون عدد 29 لسنة 1967 المؤرخ في 14 جويلية 1967 المتعلّق بنظام القضاء والمجلس الأعلى للقضاء والقانون الأساسي للقضاة والذي ينص في الفصل 14 – على انه » ينظر المجلس الأعلى للقضاء في نقلة القضاة الجالسين قبل بداية العطلة القضائيّة من كلّ سنة « . فهو لا يأخذ به ( قليلا ما احترم هذا الأجل منذ إحداث المجلس في 1967) رغم أن وزيرة العدل لجأت إلى هذا القانون مرات عديدة هذه السنة في إيقاف كثير من القضاة عن العمل وأخرها إيقاف الحاكم الذي تولى في سوسة التحقيق في قضية انستالينغو عن العمل في عملية استباقية لصدور الحركة . وما العيب في ذلك فالقوانين عندنا نأخذ منها ما نريد ونرمي بما لا نريد.
عرض الإهمال والنسيان ؟
إن تحكم رئاسة الجمهورية في الحركة في كل تفاصيلها وجزئياتها هو المقصود بمرسوم فيفري لأنه في المحصلة ليس غير تقنين لسيطرة مباشرة لقيس سعيد على الحركة و على المجلس الأعلى للقضاء بعد إلغاء الإدارة الذاتية للشؤون القضائية عقب حل المجلس الأعلى للقضاة المنتخب وعزل كثير من أعضائه وعلى رأسهم القاضي يوسف بوزاخر رئيس المجلس. ومهما يكن من أمر ، فمن الثابت انه طبق الأحكام الجديدة التي جاء بها المرسوم فان مسار الحركة سيظل هذه السنة وفي كل سنة مادام هذا النظام قائما مفتوحا بالنظر إلى انه يمكن أن يخضع مشروع الحركة المقدم من المجلس الى الرئاسة في كل حين الى اعتراض رئيس الجمهورية استنادا الى تقارير وزارة العدل وربما جهات أخرى غير معلومة تتداخل في تسمية كبار القضاة خاصة ولكن أيضا في تسمية أو تعيين أو ترقية أو نقلة كل قاض مما سيؤول طبق الفصل 19 من المرسوم الى جيئة الحركة وذهوبها مرات عديدة بين القصر والمجلس دون ان يتضمن أي أجل لصدورها.
مع العلم ان كل ذلك يحدث في نطاق السرية وغياب تام للشفافية مثلما هو الأمر في الحركة القضائية للسنة الماضية التي لم تصدر في سابقة لم تعرفها البلاد في تاريخها منذ إحداث المجلس دون معرفة سبب ذلك فلا أحد علم عنها شيئا . كما انه لا أحد قادر على الحديث عن آجال حقيقية لصدورها رغم الآجال التي يحددها المرسوم . فهو لا ينص على أي تاريخ لذلك . اذ يتولى كل مجلس من المجالس الثلاثة العدلية والإدارية والمالية إعداد الحركة القضائية ويحيلها إثر ذلك إلى رئيس المجلس الأعلى المؤقت للقضاء الذي يحيلها بدوره إلى رئيس الجمهورية في أجل لا يتجاوز عشرة (10) أيام ويتولى رئيس الجمهورية إمضاء الحركة القضائية لكل صنف في أجل أقصاه واحد وعشرون (21) يوما وله خلال الأجل المذكور الاعتراض على تسمية أو تعيين أو ترقية أو نقلة كل قاض بناء على تقرير معلل من رئيس الحكومة أو وزير العدل.وفي هذه الحالة على كل مجلس إعادة النظر في موضوع الاعتراض باستبدال التسمية أو التعيين أو الترقية أو النقلة في أجل عشرة (10) أيام من تاريخ توصله بالاعتراضات.
ومن الواضح ان هذه الصيغة المعقدة في إعداد الحركة إذ أنها قد تعرف مراجعات من قبل رئيس الجمهورية على عمل المجلس تمنع من وضع أي اجل لصدورها اذ ان تاريخ الصدور متوقف على كل عمليات الجيئة والذهوب للحركة بين مجلس القضاء ورئاسة الجمهورية التي أصبحت فاعلا أساسيا في حركة القضاة في كل تفاصيل العملية وجزئياتها وهو أمر غير مسبوق لم تعرفه البلاد من الناحية القانونية على الأقل طوال تاريخها منذ صدور القانون المتعلق بنظام القضاة و بالمجلس الأعلى للقضاء.
كما لا احد يعرف الصيغة الأولى التي يرسلها المجلس الى الرئاسة ولا المقاييس التي اعتمدها حقيقة في انجازها ولا مدى وجاهة الاعتراضات التي قد يقدمها الرئيس والتي قال عنها قيس سعيد في السنة الماضية أنها تستند إلى حجج ربما لتبرير تعطيلها..
نحن بإزاء غير المقيد الذي يتطابق تماما مع واقع الحال الذي نعيشه : فوضى و غموض واستفراد بالسلطة وتسليم من الجميع تقريبا بواقع سريالي لم تعرفه البلاد طوال تاريخها حتى في اشد فترات الاستبداد زمن بورقيبة وبن علي .
هذا من ناحية أما من ناحية أخرى و بحسب ما يفهم من المرسوم فان الحركة تصدر أولا عن المجلس ثم يأذن رئيس الجمهورية بنشرها بمقتضى أمر وما يفهم هنا ايضا أن رئيس الجمهورية لا يمكن له أن يحدث بنفسه التغييرات التي يطلبها على الحركة بل هو يقترح هذه التغييرات ويظل المجلس الأعلى المؤقت هو صاحب القرار الأخير . غير انه من الغريب أن المرسوم يصمت تماما عن فرضية عدم التزام المجلس بمقترحات الرئيس ولا عما يمكن ان يترتب عن خرق المجلس لأجل العشرة أيام لإحداث هذه التغييرات، هذا اذا علمنا طبعا بداية سريان هذا الأجل وهو أمر مستحيل في واقع الظلمة التي تعيشها البلاد …نحن في حلقة مفرغة ومتاهة : لنعرف النهاية يجب ان نعرف البداية ولنعرف البداية يجب ان نعرف نهاية الطور الذي يسبقه …حزر..فزر.
القضاة والخوف من المجهول
ولعل أكثر ما يحزن في كل هذا هو الاستهانة التامة التي تتعامل بها السلطة مع القضاة فهي تتجاهل تجاهلا تاما ما يشكله تأخر صدور الحركة من ضغط نفسي على كافة القضاة وتستهين بالظروف العائلية والاجتماعية لعدد كبير منهم وتستخف بحسن سير المرفق القضائي وانطلاق السنة القضائية في ظروف جيدة رغم أن الحركة القضائية هي العمل الوحيد الذي يتولى المجلس المؤقت القيام به منذ إحداثه .
وما يزيد الأمر قتامة حالة الخوف الشديد والتوجس التي يعيشها القضاة المغلوبون على أمرهم والتي تستشف من تعليقاتهم القليلة على صفحاتهم في وسائل التواصل الاجتماعي. فعلى شاكلة كل المجتمع المدني اختفت الجمعيات الممثلة للقضاء . جثمت رقدة أهل الكهف على الجميع في انتظار كارثة أخرى قد تحدق بالقضاء وهم نيام لتودي بآخر نفس من أنفاس سلطة حكم عليها أن تكون وظيفة محكومة بمرسوم. لكأننا أمام تبخر عجيب لكل النشاط الذي عرفته هذه الهيئات الممثلة منذ الثورة و قبل 25 جويلية ..كما اختفى صوت المحامين المعنيين بالحركة هم أيضا . حالة من الصمت الرهيب خيمت على الجميع وقد استولى صوت السلطة في عزف منفرد على الركح الفارغ من أهله ،هجره كل اللاعبين في مسرحية لشخص واحد يكلم جمهورا إما لم يعد يعنيه من أمر ما يقع أمامه شيئا لأنه تعود على عدم الاستماع إلى صوت السلطة مع عدم التسليم بصحة خياراتها في السر خوفا من المجاهرة أو واقعا تحت سلطان مخدر عجيب قوامه الغباء المعمم يبيح التسليم الأعمى بما ينافي المنطق ويجانب الحقيقة كرها لزمن الحرية الذي وجب الانتقام منه في حالة هي أشبه بالانتحار الجماعي .