أشرف قيس سعيّد، ظهر الأربعاء 23 أوت 2023 بقصر قرطاج، على اجتماع ضمّ ليلى جفال، وزيرة العدل، و كمال الفقي، وزير الداخلية، ونزار بن ناجي، وزير تكنولوجيات الاتصال، ومراد سعيدان، المدير العام للأمن الوطني، وحسين الغربي، المدير العام آمر الحرس الوطني، وعبد الرؤوف عطاء الله، المستشار أول لدى رئيس الجمهورية المكلف بالأمن القومي وتم خلال هذا الاجتماع التعرض إلى الجرائم السيبرنية ودور الوكالة الوطنية للسلامة المعلوماتية. وأشار سعيد إلى أن التهديد بالقتل وهتك الأعراض وبث الإشاعات والسب والشتم لا علاقة لها لا بحرية التفكير ولا بحرية التعبيرو بيّن أن حملات التشويه والتهديد تتزامن في عديد الأحيان لتستهدف جهة محددة أو أشخاصا بأسمائهم ووظائفهم، ومثل هذا التزامن يدلّ على تدبير مسبق وتخطيط مرتّب تتولاه مجموعات هدفها بثّ الفوضى وزعزعة الاستقرار بحسب إعلام صادر عن رئاسة الجمهورية .
وفي نفس اليوم انعقد اجتماع ثان ضم هذه المرة وزراء العدل والداخلية وتكنولوجيات الاتصال، كان غرضه تحويل خطاب قيس سعيد الى قرارات فاعلم بلاغ للوزرات الثلاث انه " تم إثارة التتبعات الجزائية للكشف عن هويّة أصحاب ومستغلي الصفحات والحسابات والمجموعات الإلكترونية، التي تعمد إلى استغلال هذه المنصّات لإنتاج وترويج أو نشر وإرسال أو إعداد أخبار وبيانات وإشاعات كاذبة أو نسبة أمور غير حقيقيّة بهدف التشهير وتشويه السمعة أو الإدعاء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العام والسلم الإجتماعي والمساس بمصالح الدولة التونسيّة والسعي الى تشويه رموزها" .
وحذرت الوزارات الثلاث، في نفس البلاغ من أن كل من يساهم أو يشارك في نشر محتوى موقع أو صفحة محل تتبع عدلي بأيّة طريقة كانت بداخل أو خارج التراب التونسي، فإنه يعرض نفسه إلى التتبعات ذاتها، على أن يقع نشر قائمات الصفحات والمجموعات الالكترونية محل التتبع بصفة دورية على المواقع الرسمية لها وأوضحت ان إثارة هذه التتبعات يأتي في إطار مكافحة مختلف الجرائم المتصلة بمواقع التواصل الاجتماعي وبغاية ردع مرتكبيها .
لا شك أن التحذير من خطورة بلاغ الوزارات الثلاث على حرية التعبير في هذه الأجواء من الملاحقات المتكررة للصحافيين المستقلين والمدونين المعارضين له ما يبرره غير أن للموضوع في نظرنا وجها آخر أيضا إذ أن رد الفعل السلطة من الصفحات التي تقول انها » تنتج وتروج وتنشر و ترسل وتعد اخبارا وبيانات واشاعات كاذبة » موجه في نظرنا هذه المرة لتلك التي تدعي الدفاع عن السلطة وعن خيارات 25 جويلية ولا علاقة لرد فعلها بطبيعة الحال بالدفاع عن الاعراض او بحماية السلم الاجتماعية وإلا لكانت السلطة تحركت ضد هذه الصفحات منذ بروزها عقب الانقلاب على الدستور في 25 جويلية خاصة. فلقد رفعت عشرات الدعاوى ضدها من شخصيات ومنظمات دون أن تحرك النيابة ساكنا تقريبا وإذا ما أثيرت الدعوى فانه لا يحال أي من القائمين على هذه الصفحات كما لم تصدر في حق أي واحد منهم أحكام رغم أن البعض منهم معروفون بالاسم ويتكلمون من تونس ( صفحة منسوبة لمحامية احترفت هتك أعراض شخصيات عامة قدمت ضدها عشرات القضايا دون طائل ) بل من الأكيد أن السلطة نفسها أو بعضا من ممثليها صاروا هدفا لهذه الصفحات التي تحولت من مهاجمة المعارضة إلى مهاجمة رموز الحكم نفسه.
من مناصرة النظام الى محاربة رموزه
لقد جعلت صفحات الثلب في المدة الأخيرة ومنها « صفحة سيب صالح » مثلا و الذي يقبع احد القائمين عليها وهو محام معروف في السجن ( إيقافه له صلة بصراعات داخلية ليس هذا سياق التوسع فيها ) من وزيرة العدل نفسها هدفا لها بنفس الأسلوب وبنفس الانحطاط الذي مارسته مع المعارضين. فأخرجت من جعبتها المسمومة وقاموسها البذيء كل النذالة الأخلاقية في هتك للعرض عدا التهم السياسية الموجهة الى الوزيرة والى بعض من الفريق الحكومي بل ان هذه الصفحة تتوعد الوزيرة بمزيد من التشهير وتسخر من بيان الوزرات الثلاث الذي تعتبره موجها ضدها مع نشر صور لها في أسلوب معتاد لدى صحافة المجاري والبلوعات مع العلم ان هذه الصفحة كانت من اكثر المناصرين للوزيرة اذ حرضتها على القضاة وكانت وراء نشر قائمات قضاة تطالب بعزلهم بل إنها نشرت قائمة كانت هي بالضبط تقريبا القائمة التي عزلها قيس سعيد في 1 جوان 2022 بل اكثر من ذلك اذ انها احترفت نشر وثائق ومحاضر رسمية ومنها ما يتصل بوثائق إدارية لقاضية معزولة اتهمت بالزنا وبرأتها المحكمة من هذه التهمة وبطبيعة الحال لم يفتح أي تحقيق جدي لملاحقة من يقفون وراء تسريب هذه الوثاق السرية المتعلقة بشرف هذه المرأة.
ولا شك ان هذه الصفحة في تقلبها هي وغيرها من الصفحات التي تدعي الدفاع عن النظام تخفي صرعات داخل قوى الضغط في قلب الحكم ذاته بين مسؤولين سابقين أقيلوا أو استقالوا وبرحيلهم رفع الغطاء عن كثيرين من الفاعلين في كواليس السلطة وبين مسؤولين حاليين صار همهم الأول التخلص من بقايا الجهات التي رحلت والتي تلتزم الصمت تحفظا أو خوفا . وهذا الصراع المعقد أمر لا مفر منه. فمن طبيعة الحكم الفردي الاستبدادي انه يصنع حوله حلقات من المتملقين والوصوليين الذين يتمعشون من اجواء تقريب الموالين وقمع المعارضين ومن غياب الشفافية و كبت الحريات وقمع الأصوات الحرة وغياب قضاء مستقل فيخلو لهم الجو لحبك مؤامرات ضد بعضهم البعض .
ان ما يقع دائما هو ان هذه المجموعات المتوافقة في البداية على مناصرة الحاكم الفرد ترتبط عادة بجهات متعددة داخل فريق حكومي و إداري لا يستقر على حال لان مسؤوليه عرضة لقرارات عشوائية خارج أي نوع من الشفافية كما لا تخضع التسميات والمناصب بطبيعة الحال في غياب برلمان حقيقي الى أي رقابة مؤسسية أو حتى محاسبة سياسية ... فلا احد يدري لماذا أقيل رئيس حكومة وعوض برئيس حكومة آخر ولا لماذا رحل هذا الوزير وجيء عوضه بثان وكذا الأمر بالنسبة إلى كل المسؤولين من ولاة ومعتمدين ورؤساء مديرين عامين .
في الظلم الحالكة تتحرك الأشباح
في هذه الأجواء من الظلمة الحالكة تتحرك الأشباح خدمة لهذا الطرف أو ذاك.
من الوهم الاعتقاد أن المسالة تتعلق بصفحة أو بموقع يمكن غلقهما و محاسبتهما ولا بأشخاص يمكن ملاحقتهم جزائيا بل ببنية نظام حكم الفرد التي تشتغل وفق تأثير مجموعة من العناصر غير المعلومة بدقة إذ أنها قليلا ما تملك صفة رسمية وهي متواقفة ظاهريا على نفس الهدف وهو مناصرة السلطة و لكنها متعارضة في أسلوب هذه المناصرة التي تخلق مع الوقت صراعات بينها يغذيها التنازع على منافع القرب من السيستام واستبعاد المنافسين على خدمته . هذه البنية المركبة المعقدة القائمة على ثنائية القرب او البعد من سلطة القرار أي على ثنائية خدمة النظام من جهة ومحاربة المنافسين الاخرين على خدمته تنتج مع الوقت حالة من الفوضى تعجز السلطة هي نفسها عن محاربتها بل تصير مع الوقت جزءا من كيانها ولذلك تصبح قراراتها رهينة الدفاع لا عن السلم الاجتماعية كما تدعي فالبلاد تعيش حالة هي أشبه بالحرب الأهلية على حد تعبير احد الوزراء القدماء بل عن هذا الشق من شقوقها أو الجناح من أجنحتها .
هكذا تولد مجموعات افتراضيَّة مشبوهة وأقلام وأصوات إعلاميّة للثلب وهتك الاعراض و الانقلاب على المعارضين بمباركة الدولة او صمتها غير انها مع الوقت تتحول الى نشاط على حساب الدَّولة نفسها اذ تغذي الصراعات داخلها كما تولد ، قوى ضغط سياسية و أمنيَّة وعشائرية تغذي هذا الصراع وتحاول استغلاله لفائدتها فتشتغل لفائدة نفوذ العائلة والأقارب والأصهار والمحيط بهم . أو سطوة جهات متنفذة اقتصادية وسياسية.
يحدث كل هذا في مناخ غذت فيه السلطة نفسها لغة المؤامرات واللوبيات والكرتلات التي لا نعرف عنها شيئا محددا . لكنها أشباح تعيش في الظلام لا يراها غير الخائف الذي يصنع له خياله جيوشا من الأعداء لا يبصرها غيره ، في الوقت الَّذي تعيش فيه الدَّولة والإدارة حالة من الاضطراب والفوضى بفعل القرارات العشوائية والمتناقضة وفي ظل أزمة سياسية واقتصادية خانقة وغياب كلي للحوكمة الرشيدة بالإضافة الى اختلال رهيب للتوازن بين السلط بعد الانقلاب على الدستور وخراب مجلس النواب المنتخب ديمقراطيا وتعويضه باخر يعامله المواطنون باللامبالاة ، لا وظيفة له غير المصادقة على مشاريع قوانين السلطة مع نظام قضائي فقد كل مقومات السلطة وأضحى وظيفة في خدمة أغراض النظام وأداة طيعة لمحاربة خصومه السياسيين .