دولة الأدمينات الشكاية Etat panoptique
استعملت عبارة بصاصة او حداقة او شباحة لترجمة المفهوم المعاصر في توصيف الاستبداد المعاصر بعبارة "الدولة البانوبتيك" وهي دولة العين / العيون الرقيبة التي ترى كل شيء وتتابعه وتحدق فيه وتعتمد تقارير البصاصين ليصبح المجتمع كله تحت كاميرات المراقبة بالمعنى المجازي والفعلي للكاميرا .
لم تتوقف دهشتنا من البيان الثلاثي لوزارات الداخلية والعدل والتكنولوجيا حتى " غشمتنا " دولة 25 ببيان رابع من وزارة الخارجية تعلن فيه عزمها التحول الى منصة"شكايات" بكل المواقع والأشخاص الالكترونيين والفعليين الذين يتهجمون على بعثاتها وموظفيها كما تعلن فيه تحولها الى "أدمين" نبيه لفسخ التعاليق على منشورات موقعها والتشكي بأصحاب التعاليق " المتهجمة " عليها .
تتحول الدولة بهذه البيانات الاربعة من دولة تسير شؤون الناس وتقدم لهم خدمات العيش المشترك من رعاية الاقتصاد والأمن والصحة والتعليم الى دولة عيون تقرأ التدوينات والتعاليق و" تنظر " فيها وتنشر بصاصيها وعيونها للحصول على ما تؤثث به " النوازل " امام قضاء البلاد والقضاء الدولي .
هذا الفعل ( مراقبة من يسبنا على الفايسبوك وتقديم الشكاوى في شأنه ) لو انشغلنا به نحن كأفراد مشتغلين بالشأن العام لما بقي لنا وقت لكتابة مقالات وصياغة تصوراتنا ومقترحاتنا في شؤون السياسة والثقافة وقضايا الناس اذ من المؤكد اننا كشخصيات عامة نتعرض يوميا الى مئات التعاليق والتدوينات التي تهاجمنا وتثلبنا وتعترض علينا فما بالك بدولة تحكم شعبا يقارب عدده 12 مليون في الداخل والخارج وتعد حساباته على فايسبوك ما يقارب 8 ملايين يمارس نصفها على الاقل معارضة الحكام وشتمهم كما هي عادة الشعوب والنخب منذ قرون . هذه الدولة تعلن في بلاغات رسمية انها ستتكفل بمتابعة السبابين لتشكوهم ولا ندري هل ستجد وقتا لحكم البلاد بعدها .
اعلى مراحل الشعبوية هي تحول الدولة التي تمثلها الى عدوة نفسها تضع نفسها موضع اندهاش واستغراب واستهزاء من اندادها الدول في عالم لم يعد ينشغل حكامها الا بما يضمن نجاحهم في الاداء الاجتماعي والاقتصادي لا بمتابعة التغريد والتدوين في عالم افتراضي لم يعد يحاصره بصاصون ولا يخيفه مخبرون ولا يقدر على ملاحقته حتى "قاضي فاس" ....
هل خسرت شعبوية 25 اسبقيتها الفايسبوكية ؟
من مقومات التيار الشعبوي التونسي كما تبلور مع السيد قيس سعيد القطع مع الاجسام الوسيطة التقليدية ومن بينها الاعلام التقليدي . مرتكزات الشعبوية كما عرفتها العلوم السياسية قيامها على فكرة الزعيم الذي يتواصل مباشرة مع الشعب . يتخذ الزعيم الشعبوي كاريزماتيته من اعتباره طاهرا معاديا للنخبة الفاسدة ( هم ) مترفعا عن وسائل فعلهم ( الاحزاب والجمعيات والاعلام التقليدي ) مندمجا بشكل مباشر مع الشعب.
تجدر الاشارة الى ان "الشعب" في التصور الشعبوي مفهوم ميتافيزيقي يشير الى كتلة متجانسة تطرد التنوع تقف ك" نحن" في مواجهة راديكالية طبقية مع " هم " اي اللصوص والخونة من النخب السياسية والاثرياء والمثققين والحقوقيين والنقابيين الذين يغدرون به وبثوراته ولا تهمهم الا السلطة التي يفتكها الزعيم منهم باسم الشعب ليعيدها الى الشعب هي والاموال المنهوبة.(الزعيم لا برنامج له فالشعب نعطيه السلطة ليطبق ما يريد بعد ان تعود اموال الشعب الى الشعب ليبني بها شركاته الاهلية ) .
مثل الفايسبوك ، تماما مثل " الاتصالات المباشرة " مع الشعب عبر " حمامات الحشود " التي يستحم فيها الزعيم ويجدد فيها التذكير بخطاباته ويعلن عبرها قراراته ، البديل "الثوري الشعبي" للاعلام التقليدي بماهو " اعلام فاسد " تقف وراءه " اللوبيات والكارتيلات " وتمارس فيه حرية التعبير نخب فاسدة لم تمتلك حرية التفكير .
هذه تقريبا هي الخلاصات والمقدمات النظرية التي جعلت لمسار 25 ( لفترة طويلة تمتد على ما يقرب 3 سنوات) قوة حقيقية على الفايسبوك حيث كانت القرارات والمداولات وضغوطات " الحشود وانصار المسار " تتم على الفضاء الافتراضي كما تمت محاكمة عشرية الانتقال وسحل رموزها على هذا الفضاء بنجاح مشهود وقد شهد الفضاء الازرق بشكل سريالي عجائبي ولادة " نخبة مؤثرين جدد" مثلوا على امتداد الاشهر الذهبية للانقلاب سلطة مرعبة يمثلها " خلايق" وانصاف جهلة منهم تخرج المعلومات حول التعيينات والايقافات ومن خلالهم تحدد السلطة اجندة فعلها ومضمون خطابها .ولعل جميعنا يتذكر " أيام الجمر " في الاشهر الاولى لانقلاب 25 حين كنا تحت قصف السحل الالكتروني والضحكات الصفراء للحسابات المعلومة والمجهولة .
لكن مالذي وقع فجأة حتى تتحول السلطة من موقع الارتياح والانتصار في هذا الفضاء الازرق الى موقع الدفاع والخشية. امران اساسيان يجب اخذهما بعين الاعتبار :
اولا: مكاسب العشرية وعلاقة هذا الفضاء بالقوى الثورية والديمقراطية وقدرة شباب المدونين والكتاب من انصار الانتقال الديمقراطي على استعادة المبادرة الفايسبوكية وافتكاك الفضاء من جديد في مواجهة الشعبوية وحشودها الفارغة بما مكن الفكرة الديمقراطية والحقيقة الثورية من الانتصار مجددا على هذا الفضاء الذي اصبح يمثل ارقا لسلطة تفشل باستمرار قي تحقيق وعودها الشعبوية .وهو ما يدفعها الى التفكير في اسكاته كما فعلت مع الاعلام التقليدي.
ثانيا : تصدع المجموعات الانتهازية التي ركبت موجة 25وبداية مسار التفاضح فيما بينها مما اصبح يهدد تماسك المحيط الخمسعشريني في الحكم والموالاة وبذلك قد ينقلب السحر على جميع السحرة ما يقتضي اسكاتهم جميعا ولملمة حبالهم التي لم يعد لها دور بعد ان ابتلعتهم عصا موسى فضحت خواءهم .
ان اعلان الهزيمة على الفايسبوك والفضاءات غير التقليدية وهي السلاح الاصلي للشعبوية يؤكد بوضوح ان سلطة الامر الواقع تخسر باستمرار معركتها مع الديمقراطية .