تشير دراسات في تجارب الانتقال الديمقراطي محكّمةٌ إلى أنّ نظام الثورة المضادة أشرس من النظام الذي قامت عليه الثورة. وسياسته الوحيدة هي التشفي من المدافعين عن الحريات والديمقراطية، ولا برنامج له سوى التنكيل بكل صاحب رأي مخالف ونشر الخوف بغاية محو بقايا الحالة الإيجابية التي فجّرها كسر نظام الاستبداد وما رافقها من شعور جارف بالانعتاق التاريخي من ربقة عقود القمع السياسي ومصادرة الحريات والاعتداء على الحرمات. وبهدف إزالة ما راكمته تجربة بناء النظام الديمقراطي من حواجز تمثل عقبات عنيدة في وجه الانقلاب.
وفي المقابل تؤكد هذه البحوث أنّ نظام الثورة المضادة على قدر كبير من الهشاشة والقابلية للانقسام بل والانكسار السريع والمفاجئ، رغم ما يحاول إظهاره من سطوة يستمدها من تفويض شعبي موهوم ومن أجهزة صلبة غير قادرة على منحه شرعية ما عدا شرعية القوة. وأساس هشاشته المفارقة التي يعيشها بين ادعائه تجاوز كلّ الماضي (ماضي الاستبداد البعيد وماضي الحرية والحياة الديمقراطية القريب) وعلاقته العضوية بالنظام القديم ومصالحه. فأغلب الانقلابات التي قادتها الثورة المضادة كانت في جوهرها محاولة لإعادة إنتاج النظام القديم.
وتتناسب هذه القابلية للانكسار مع مدة الانتقال الديمقراطي المغدور. فكلما كانت تجربة الانتقال أقصر كان الفتك بالديمقراطية أيسر وكلّيًا وبوجه سافر، إذ لا حاجة إلى مسوح لتغطية عنفه الجذري ولا حذر من حالة الرعب المعمم.
وكلما كانت تجربة الانتقال أطول في الزمن وأدوم وضعت من الحواجز ما يمنع نظام الثورة المضادة من إظهار شراسته كاملة، فيضطرّ إلى التدرّج في عنفه إلى أن يكشف عن وجهه الحقيقي القمعي.
في الحالة الأولى، تعتمد منظومة الانقلاب الصدمة. وعند انكشاف ملامح الفشل وتراكمها واشتداد الأزمة بوجهيها الاجتماعي والسياسي وتهاوي ما حُبّر من سرديات شعبوية ومن عجز عن تحقيق الأدنى من الوعود، يكون المرور إلى المخاتلة باعتبارها السبيل الوحيد لربح الوقت من أجل توفير شروط استمرار داخل الأزمة الطاحنة، فيُطلِق نظام الانقلاب سيلًا من الوعود الجديدة ليجاورها إلى وعوده الأولى التي لم يحقق منها شيئًا. ومع ذلك يطلب منحَه وقتًا إضافيًا بعد "اكتشافه" أنّ الأمر أعقد مما كان يتَصوّر. وبعد أن كان يُطلَب من "الشعب العظيم" الاستعداد لحياة الرفاه صار يُتَوَسّل للصبر على صعوبات منعطف الأزمة الطارئ. وينتهي الأمر بدعوته إلى التبرّع بالقليل الفردي لتوفير الكثير الجماعي.
وفي الحالة الثانية، تعتمد منظومة الانقلاب على المخاتلة التي تتطور تدريجيًا نحو الصدمة التي تجتهد في إخفاء كلّ مقومات الصدمة مع الإصرار على تحقيق نتائجها كاملة، فلا تكشف بذلك عن مخططها بنسف المسار الديمقراطي، وتسلك سبلًا ملتوية من الخديعة لكي لا يكون هناك إجماع حول لا دستورية عملها الانقلابي ولا أخلاقيته.
ويعمد الانقلاب إلى البحث في تجربة الانتقال الديمقراطي وتعثرها عله يظفر بما يبرر فشل الانقلاب في "مساره التصحيحي". فيُفَسِّر فشله في مواجهة الأزمة المالية والاقتصادية الاجتماعية وعجزه عن توفير شروط تجاوزها بحجم النهب والتلاعب بالمال العام وإهدار مقدرات البلاد من قبل "الديمقراطية الفاسدة"، حينًا، وحينًا آخر يبرّر بلوبيات نفوذ المال والأعمال والمصالح الناشئة ضمن حالة سيلان السلطة والمال، بعد انكسار نظام الاستبداد. وهي لوبيات لا همّ لها، من وجهة نظر الانقلاب، إلا التنكيل بالشعب وثنيه عن مسك زمام أموره بيده واسترداد سيادته المهدورة.
وأنت تقرأ تجربة الانتقال الديمقراطي في رومانيا تجد بينها وبين التجربة التونسية تشابهًا عجيبًا. وكان الإعلام الموالي القديم ولوبياته المالية إلى المجتمع المدني المجتمع وراء توفير شروط الانقلاب من خلال سياسات التعطيل والترذيل.
وأمّا تجربة مصر فإنّ بينها وبين الانقلاب على الديمقراطية في تشيلي في 11 سبتمبر/أيلول 1973 تشابهًا كبيرًا، فقد انتهت التجربتان اللتان دامتا ثلاث سنوات بقتل الرئيسين المنتخبين.
قام الانقلاب في الشيلي على سلفادور أليندي أوّل رئيس ماركسي منتخب ديمقراطيًا في العالم سنة 1970 مثلما كان محمد مرسي أول رئيس مصري وعربي منتخب في انتخابات عامة. وكانت المؤسسة العسكرية في البلدين وراء الانقلاب.
وقد كان الانقلاب على الديمقراطية بواسطة تمرّد للقوات المسلحة بقيادة الجنرال أوغستو بينوشي قائد الأركان لاستهداف الديمقراطية وما صاحبها من إصلاحات أطلقها أليندي شملت تأميم صناعة التعدين. وهو ما أثار حنق المعارضة اليمينية والولايات المتحدة. وكان لوكالة مخابراتها (CIA) دور مباشر في الانقلاب حسب ما تمّ الإفراج عنه من وثائق من قبل وزارة الخارجية الأمريكية منذ أيام قليلة.
ومن المهم تسجيل موقف الولايات المتحدة المناهض للديمقراطية وهي مهد الديمقراطية الحديثة في كلّ سياق تمثّل فيه الديمقراطية تعارضًا مع مصالحها في سياق الحرب الباردة وقطبية النظام العالمي يومها. وهو موقف يجلو حقيقة الديمقراطية الغربية المشروطة بالهيمنة (الاستعمار). ولم يبدر منها تبنيًا لثورة الألفيّة الثالثة التي انطلقت من تونس، وتتهم بالتواطؤ مع الانقلاب على ثورة 25 جانفي/يناير 2011 ومسايرة الصلف الصهيوني وما يمثله كيانه المحتل لفلسطين من شهادة ميدانية على فكرة الديمقراطية المشروطة بالاستعمار (الاحتلال العنصري). فالكيان الذي يتباهى بكونه الديمقراطية الوحيدة في بحر الاستبداد العربي يضع يده في يد الاستبداد، ويدرك أنّ امتناع قيام الكيان السياسي العربي إنما هو الاحتلال (الكيان) والاستبداد (النظام العربي). وهو أكثر من يرعبه الربط بين "إسقاط النظام" و"تحرير فلسطين"، أي تلازم المقاومة والمواطنة.
وعلى هذا الأساس بنى عداءه الجذري للربيع العربي الذي ينعته مثقفو بقايا نظام الاستبداد العربي بالربيع العبري.
وتمثل التجربتان الانقلابيتان في مصر وتونس نماذج ممثّلة لهذه الظاهرة. فالأولى (بمصر) انتقلت من صدمة العنف العاري إلى المخاتلة والخديعة، وإن كان الأسلوبان متزامنين متظافرين. وتنتقل الثانية (بتونس) من المخاتلة والخديعة إلى صدمة العنف العاري باستعادتها كل تقاليد الاستبداد في قمع الحريات وتكميم الأفواه بمراسيم متخلفة وسجن المدافعين عن الدستور والديمقراطية.
قد يعطّل ما بنته فترة الانتقال من حواجز (مؤسسات، نسيج قانوني، تقاليد الحرية وسقوفها العالية) وتيرة الهدم، لكنه لا يلغي الرغبة الجامحة في التشفي عند سلطة الانقلاب سليلة الثورة المضادة وتعبيرها الأشد تطرفًا في مناهضة الحرية ومحاربة محاولات تأسيسها.
أشرنا إلى علاقة التناسب بين الفترة الزمنية التي يستغرقها الانتقال ونسق تفكيك ما بناه. كما أشرنا إلى الصلة بين الإجهاز على الانتقال في سنواته الأولى وحجم الهدم والتفكيك من قبل نظام الانقلاب وسرعته، والمرور إلى "ما بعد الانقلاب". ومثاله الواضح في الانقلاب على ثورة 25 يناير. وهو انقلاب ذو نزوع صهيوني وتمويل خليجي وصمت أمريكي لم يُقرأ إلا على أنّه صمت متواطئ. وقد كان القمع في الميادين رهيبًا وغير مسبوق في مصر رغم سطوة العسكر منذ 1952.
فما عرفه ميدان رابعة مجزرة تمَ فيها إطلاق الرصاص الكثيف بعشوائية على الجموع الغفيرة العزلاء المعتصمة بالميدان، ثم تجريف ساحة الميدان بجرافات عملاقة سحقت خيام المعتصمين وأجسادهم الممزقة. ومن نجا منهم حاصرته النيران ومداخل الميدان المغلّقة فاحترق. وبلغت الاعتقالات في صفوف أنصار 25 يناير 60 ألف معتقل.
ومجزرة رابعة جريمة من جرائم الإبادة الجماعية. وهي بقدر ما تشهد على دموية نظام العسكر، تفصح عن موقف أوروبي وغربي متواطئ مع بقايا الاستبداد وغير مرتاح للديمقراطية خارج مجاله عندما تكون سبيلًا إلى بناء مواطنة سيادية.
في الشيلي كان القمع شديدًا أثناء الانقلاب وخلال حكم بينوشي الذي استمر 17 عامًا، وتشير التقارير إلى أنّ ضحايا الانقلاب من نظام أليندي وأنصاره بلغ 40 ألف ضحية نتيجة الإعدام والتعذيب والسجن السياسي والاختفاء القسري.
عتوّ نظام الثورة المضادة يخفي هشاشة فعلية أشرنا إلى أساسها. وأمّا أسباب هذه الهشاشة فإنها تعود، بتقديرنا، إلى:
• أهمية ما بنته مرحلة الانتقال الديمقراطي من مكتسبات تمثل، وإن قلّت، حواجز في وجه نظام الانقلاب. ويتأكّد هذا مع تجارب الانتقال التي تمكنت من الصمود لعشرية أو لأكثر.
• الآثار السلبية لسياسة التعطيل والترذيل التي مارستها قوى الثورة المضادة وهي تمهد للانقلاب على مسار بناء الديمقراطية. وهي آثار طالت بنية السياسة وعلاقة الناس بالدولة وبالمؤسسة ومحاولات تجاوز الأزمات المالية والاقتصادية الموروثة عن عهود الاستبداد. فكان من الصعب تلافي رواسب كل هذا بعد الانقلاب.
• عجز نظام الثورة المضادة بسبب افتقاده للرؤية والبرنامج عن مواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وفي الغالب كانت "إضافته" في تحويلها إلى نكبات وطنية وكوارث اجتماعية.
• التحوّل العميق في نخبة الدولة وهويتها السياسية والاجتماعية، فقد مكنت سنوات الانتقال من إدخال أوسع الفئات إلى المجال العام بواسطة الانتخابات الشفافة والنزيهة، وهو ما مكن القوى الديمقراطية والحقوقية التي كانت تعارض نظام الاستبداد من أن ترتقي إلى أعلى مناصب الدولة. وسجناء الحركة الديمقراطية في مواجهة الانقلاب هم نخبة النخبة في الدولة. وهم من كانوا على رأس الدولة فمنهم الوزير ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان وكاتب الدولة والمستشار حتى أن سؤال من هو خارج الدولة ومن هو ممثلها الحقيقي يُطرح بقوة.
• الوضع الانتقالي الذي يعيشه العالم إذ لم يستقر صراع المحاور الذي احتدّ بعد الربيع العربي عند معادلة دولية واضحة. فانتهاء الحرب الباردة وسياق العولمة القوي لم يفضيا إلى نظام القطب الواحد في المستوى الدولي. وهو ما كان له شديد الأثر على الثورة وتجارب الانتقال الديمقراطي وعلى الثورة المضادة نفسها وما أقامته من أنظمة هي في جوهرها محاولة لاستعادة النظام القديم الذي قامت عليه الثورة. ولكنها استعادة فاشلة حتى وإن استمرت هذه الأنظمة في الحكم. فعدم استقرار الصراع الدولي أربك التحالفات عند الجهتين. ثمّ إنّ نظام الثورة المضادة شعبوي في اتجاهه العام قام خطابه على معاداة "النخبة الخائنة" باسم "الشعب الخيّر"، ولم يجد حتى من نخب القديم إلا الضحل منها والرث فتأكدت عزلته في الداخل إلى جانب عزلته في الخارج. ولا يحفظ استمراره إلا الأجهزة الصلبة. فهشاشة نظام الثورة المضادة من هشاشة تحالفات منظومته التي لن تقدر على تجنب انقسام مكوناتها أمام ضغط الحركة الديمقراطية المضطهدة. وسيكون انقسام منظومة الانقلاب مدخلًا لمرحلة جديدة باتجاه استعادة الديمقراطية في ظروف مختلفة إلى حد كبير عن ظروف الانتقال الديمقراطي.