ماذا لو استوردنا الحليب من بولونيا غبرة في ساشيات ذات 100 غرام "ندردرها" في لتر ماء في ثوان؟ توه رئيس غرفة تجميع الحليب يقول إنه "لا وجود لأزمة"، لكن الأزمة موجودة وواضحة، إن تفاديناها اليوم فستكون غدا، لأن أسبابها قائمة وهي أننا نستورد العلف من الخارج بدينار يزداد ضعفا ودولار قوي مع كلفة معدلة على اقتصادات قوية،
الخلاصة: لكي تكون منظومة الحليب رابحة يجب أن يباع لتر الحليب بثلاثة دنانير، هل ثمة حل آخر؟ طبعا، ثمة شيء قديم في بر تونس اسمه الخارطة الفلاحية صاغه العالم القرطاجني ماغون قبل 22 قرنا وسرقه الرومان وعدله ببراعة كبيرة الأندلسيون الهاربون إلى تونس ثم طوره الفرنسيون مع الميكنة،
يعني: أن تنتج ماذا وأين وبأية كلفة ولأية سوق في توازن عادل بين المنتج والمستهلك وبينهما مسديو الخدمة، راهي علب الحليب المبستر لم تظهر إلا "هنا هنا" في تونس عن طريق تقنية بارملات الإيطالية، قبلها كان الحلايبي يذهب فجرا إلى مربيي الأبقار التونسية الحمراء المتأقلمة مع البلاد والتي يمكنها الرعي في الغابات والبور والفيافي ويوزع حليبا طازجا ذو جودة عالية وخال من المواد الكيمياوية والحافظات ويوزعه صباحا على البيوت، أبقار لا تنتج كثيرا من الحليب لكنها تعيش في أسوأ الظروف المناخية ولا تحتاج بياطرة وأدوية وتلقيحا صناعيا وتضمن الحد الأدنى من الإنتاج وتتميز بلحم ذو جودة عالية،
لما انتقلنا إلى الإنتاج الصناعي للحليب، لم ننقل النموذج الاقتصادي كاملا بل جعلنا المصانع سادة العملية: كان ثمة حليب نشري حاجتي فقط وكان ما ثماش، مش مشكل، يمكن تسييل الحليب الغبرة، ففي إيطاليا مثلا، كانت شركة الحليب بارملات تتكفل بتوفير الأبقار الحلوب للفلاحين بقروض استثمارية ميسرة وضمان الشراء بشرط وحيد: أن تكون لك أرض لإنتاج العلف،
فهذه الكائنات المعدلة لإنتاج الحليب ليست متواضعة في غذائها الذي يفوق قيمة غذاء أسرة يوميا، أما في تونس، فقد اكتشفت المافيا أن أهم أبواب تبييض الأموال هي الأراضي الفلاحية التي كانت تنتج العلف وغيره، انظروا إلى الأراضي التي صادرها بورقيبة وأعطاها لديوان أراضي مجردة، أخصب أراضي تونس كيف أصبحت كلها قرى ودشر وبيعت بأبخس الأثمان بالحبل لتصبح إقامات فاخرة لنهايات الأسابيع بسبب فشل الدولة في تصميم المدن وتوفير رصيد عقاري للسكن،
لم تكن هناك أية خطة لإنتاج العلف محليا سوى خطط المافيا: توريد العلف بالدولار مقابل عمولة مضمونة وكلفة نقل فاحشة لأبقار شديدة الحساسية عند فلاحين صغار لا قدرة لهم على مواجهة الغلاء منذ انهيار الدينار، لذلك بيعت أبقار الحليب الهولندية الغالية لحما إلى الجزارين هربا من الإفلاس طالما أن أفضل عرض من جماعة الحليب هو العلف مقابل الحليب فقط،
فإما أن تعيد تنظيم المنظومة وفق خارطة فلاحية واضحة: أين نزرع الأعلاف وأين نربي البقر الحلوب وكيف نضمن ربح الفلاح الذي هو رأس المال الأصلي والحقيقي، غير ذلك، ثمة حل أسهل اقتصاديا: أن نستورد الحليب المجفف من بولونيا ونمكن العائلات من أن "تدردر الحليب" وحدها مثل قهوة النسكافي بدل الكذب على الناس، على الأقل لن يتكلف 3 دنانير للتر،