نُكبت مدينة درنة بسيل عارم ذكّر بسيل مأرب كما روته لنا أساطير العرب القدامى. نتابع صور النكبة الجارفة ونسمع زفرات الحزانى ونتضامن افتراضيًّا (وكل افتراضي في حالتنا تقصير وعار). نخجل أمام الموت، لكن الحياء أمام الموت لن يثني الناظر في التاريخ عن البحث في الأسباب.
من بنى مدينة في مجرى وادٍ؟ سيقول الطيبون إنهم الأهالي الذين اطمأنّوا للزمن وللجغرافيا، ومثل هذا القول يبرّئ من حكم ليبيا لنصف قرن تقريبًا دون أن يهتم بحال الناس ويسهّل عيشهم، رغم الثروة الرهيبة التي جلس عليها فبدّدها بسفاهة لم يبلغها حاكم في تاريخ الشعوب قاطبة.
اكتشفنا درنة بعد السيل والنكبة، لقد مررتُ بجوارها وشربت من حياضها يومًا ولم أعرف تاريخها. 44 صحابيًّا من الفاتحين انتهوا هناك، معلومة فاجأتني، المدينة على طريق الفتح والحج نقطة ربط بين شرق وغرب مسلمين.
تاريخ عريق هذه شذرة منه، لكن الخرائط كشفت لنا مدينة عشوائية من الواضح أن ساكنتها تدبّروا أمرهم دون خطة بناء حديثة، لم تكن هناك خطة لأنه لم يكن هناك حاكم مهتم، من مسؤولياته التي لا مناص منها أن ينظم بناء المدن وليس المال ما ينقصه، ليستبق مفاجآت الطبيعة. نكبة درنة شاهد على سياسات القذافي القومجي السفيه.
مقارنة فرضت نفسها
ونحن نتابع مشاهد النكبة، قامت المقارنة صارخة بين مدن الخليج الذكية ودرنة (حمى الله أخوات درنة). لقد توفرت الأسباب نفسها لأهل الكويت ولأهل قطر ولأهل الإمارات، أي الثروة الطاقية (غاز ونفط)، فبنوا مدنهم بتخطيط مستقبلي ووفّروا أسباب المنعة لشعوبهم، وطيلة مسيرة البناء منذ السبعينيات ونحن نسمع القذافي وأبواقه الدعائية تسبّ الأنظمة الرجعية، وتحصر اللعنات ببلدان الخليج العربي.
هذه الأنظمة “الرجعية” وظّفت ثروتها لصالح شعوبها، فكانت الكويت والدوحة وغيرهما من المدن التي تقتحمنا بتخطيطها السليم وعمرانها المتين. في المقارنة المؤلمة نتذكر أن ليبيا عرفت الثروة النفطية قبل بلدان الخليج، وكان يمكنها أن تفعل أفضل ممّا فعل الخليجيون، لكن درنة كشفت لنا الفضيحة.
مدينة بتخطيط قروسطي ضاعفت نكبتها عشوائية الاجتهاد الأهلي غير العلمي. مدينة تقول لم يكن هناك نظام سياسي يهتم بالناس. أين ذهبت الثروة التي كانت ستُنفَق على بناء بلد جديد عصري يستفيد من علوم التخطيط العمراني؟ لقد أُهدرت فقط.
الهدر هو ميزة الأنظمة القومية التي حكمت شعوبها بخطاب توحيد الأمة وترقية المواطن العربي، في أفق بناء أمة عربية قوية وفعّالة على الساحة الدولية. خيط رابط بين ليبيا والجزائر والعراق وسوريا، حيث الثروة الطاقية والبشرية والموقع الاستراتيجي والخطاب الثوري، ثم نكتشف نموذج درنة، وكم من درنة تنتظر كارثة في بلدان الخطاب القومجي؟
لقد مرت سيول أقل خطرًا بالجزائر خلال أول الصيف ورأينا الكوارث. بمنطق بسيط، كان بناء مدن عصرية في ليبيا أولى من تحرير فلسطين، لكن القوميين لم يحرروا فلسطين ولم يبنوا مدنهم، لقد أهدروا ثروات شعوبهم، لقد اشتروا أسلحة يمكنها تدمير العالم وأغنوا صنّاع السلاح في العالم، وبقيت شعوبهم عارية من كل حماية من عناصر الطبيعة بله عن حمايتهم من عدوان خارجي. لقد طمعت دولة تشاد الفقيرة ذات يوم في ليبيا الغنية واستولت على بعض أراضيها.
ترميم درنة وأخواتها
في نقاش يسدّ النفس مع أحد الذين ما زالوا يلوحون بالراية الخضراء القذافية، ويقيمون المناحات على “الربيع العبري” الذي قتل زعيمهم، لم يجب عن السؤال “أين ذهبت الثروة النفطية في ليبيا؟”، بل قفز إلى زلزال المغرب مباهيًا بأن خراب درنة أقل من خراب زلزال المغرب، جاعلًا من الزلزال غير القابل للتوقع مقابلًا لسيل كانت علامات تقدمه نحو المدينة مكشوفة.
قلنا له إن تقسيمكم للعالم بين تقدمي ورجعي كان يضع المغرب في الأنظمة الرجعية الخائنة للأمة، بينما تنسبون لأنفسكم كل فعل تقدمي (ومنه بناء المدن على قواعد العلوم الحديثة)، فضلًا عن أن المغرب لم يملك ثروة مثل ثروة ليبيا، فكيف تخرب مدينة يمرّ النفط من تحتها إلى موانئ العالم؟ كان على الطبيعة الملعونة ألّا تفضح الهدر القومجي كي يستمر القومجي في غيّه.
سيكون على من ورث حكم ليبيا بكل عاهاتها أن يرمّم درنة، وسيكون على من يرث الأنظمة القومية أن يرمّم بلدات كثيرة بل بلدانًا بكاملها، تُركت لغريزة حب البقاء فبُنيت بالجهل والخوف والقليل من المال. درنة إشارة بسيطة إلى هدر دام أكثر من نصف قرن، وأفضى إلى خراب كبير سيكلف نصف قرن آخر من الثروة والجهد ومعاناة النواح القومجي.
الهدر حالة عامة
إن نذكر العاهات التاريخية التي أحدثتها الأنظمة القومجية بشعوبها، لن يعني ولن يؤدي إلى تبجيل أنظمة أخرى عازتها الثروة النفطية وعازتها مثل الأنظمة القومية خدمة شعوبها، وفي تونس التي أكتب منها نعيش برحمة الطبيعة لا بإنجازات نظام حكم تونس بعقل غير علمي، فالهدر واحد والاختلاف في الدرجة لا في النوع. في تونس مدن بناها الأهالي بمال قليل على ضفاف الأنهار ولم تغرق بعد، ليس لأنها محمية بل لأن السيول مثل سيل درنة لم تصبها.
هذا يؤدي إلى بناء فكرة شاملة عن إنجازات الأنظمة العربية، التقدمية منها والرجعية القومية منها والقطرية، أنظمة لم تحترم شعوبها بل قمعتها وسخرت منها وبددت ثرواتها، بل أعاقت حتى مجهود الأهالي الذين عرفوا بالأخطار وكتبوا للاحتياط منها (أرشيف الجغرافيين التونسيين في الجامعات يزخر بالدراسات العلمية حول التخطيط العمراني وعيوبه والحلول المنجية منه).
لقد صار لتونس العاصمة موعد سنوي في شهر سبتمبر/ أيلول مع الغرق، إنها مدينة تقوم على نظام تصريف صحي عمره أكثر من قرن، ومخصص لعدد من السكان أقل من مليون ساكن، في حين يسكن المدينة الآن حوالي 4 ملايين.
هذا يطرح الأسئلة ويحدد المسؤوليات على الذين يودّون التصدي للشأن العام، لكننا نراهم غارقين في كتابة الدساتير لكأن الدساتير تقي من السيول، نعم الدساتير ضرورية لتنظيم علاقات الناس، لكن بناء مدن تضمن سلامة المواطن من عناصر الطبيعة ومن فئران المجاري هو التجسيد الحقيقي للدساتير.
رحم الله أهلنا بدرنة، لقد كانت نكبتها شهادة على هدر كرامة الشعوب قبل هدر ثرواتها.