انتهت أشغال المؤتمر العادي للجامعة العامة للتعليم الثانوي فجر الثلاثاء 03 أكتوبر 2023، بإعلان فوز ثمانية أساتذة من قائمة » ردّ الاعتبار » وهم محمد الصافي ومبروك التومي وسهى ميعادي وشهرزاد الرضواني وحاتم هاني ونور الدين الرويس وتوفيق العرفاوي والصادق المحمودي، مقابل ثلاثة فقط من قائمة » الصمود والثبات » (قريبون من لسعد اليعقوبي) وهم جودة دحمان ومنتصر بن رمضان وفخري الصميطي.
وجرى المؤتمر كالعادة في أجواء صاخبة وفي تنافس حكمته صراعات مهنية ولكن حزبية أيضا هيمنت على العمل النقابي داخل القطاع منذ السبعينات وداخل الاتحاد العام التونسي للشغل منذ تأسيسه تقريبا . فقد كان الاتحاد العام التونسي للشغل متهما على الدوام من خصومه بأنه نقابة مسيّسة وانه كان منذ البداية ملاذا تتجمع فيه القوى اليسارية خاصة . كما وقع اتهام هذه القوى في كثير من الأحيان بأنها تغلب الجانب الإيديولوجي بل أحيانا الحزبي على الجانب النقابي وان المسؤوليات داخل الهياكل النقابية من النقابة الأساسية إلى المكتب التنفيذي الوطني تخضع إلى محاصصات حزبية بين تشكيلات متنوعة من اليسارين الماركسي والقومي.
ولم يختلف الحال بالنسبة إلى المؤتمر الحالي الذي افرز تركيبة يسارية مختلطة كما سنرى.
ويبدو ان هذه التركيبة التي انتصرت فيها قائمة « رد الاعتبار » تحكم فيها عاملان الأول مهني وهو غضب القاعدة الأستاذية عقب اتفاق 23 ماي 2023 بين جامعة الثانوي ووزارة الإشراف الذي أسفر عن قرار النقابة رفع قرار حجب الأعداد مقابل الزيادة في الأجور موزعة على ثلاثة سنوات بداية من 2026 وهو الاتفاق الذي يسميه كثير من الأساتذة « اتفاق العار » والثاني سياسي يتعلق باتهام الكاتب العام المتخلي لسعد اليعقوبي بالولاء للوزير محمد علي البوغديري ومن ورائه السلطة السياسية وهو الولاء الذي اعتبر خيانة للقطاع في مقابل منافع حزبية .
« اتفاق العار »
موجة من الغضب انتابت عددا كبيرا من أساتذة التعليم الثانوي بعد الاتفاق الذي وصفه معارضوه بالمهزلة ووصفته النقابة باتفاق الأمر الواقع .واتهم الأساتذة حينها بعض المكاتب الجهوية لنقابة الثانوي بالخيانة والالتفاف على مطالبهم.بل وصف الأساتذة الرافضون اتفاق 23 ماي ب « اتفاق العار ».
وما زاد في غضب الأساتذة تبرير نقابة الثانوي الذي جاء فيه على لسان الكاتب العام المساعد فخري السميطي من انهم «قبلوا الاتفاق الذي عرضته وزارة التربية تجنّبنا لمزيد تأجيج الخلاف القائم بين المكتب التنفيذي الحالي للاتحاد والنظام القائم » .
كان غضبا عارما أدرك لسعد اليعقوبي بعده انه موجه ضده شخصيا وضد القيادة النقابية القطاعية لارتباطها السياسي بوزير التربية محمد علي البوغديري وبالسلطة فاستبق الأحداث وأعلن انه لن يترشح في المستقبل لاي منصب نقابي وان كان لمح الى انه قد يتجه إلى شكل آخر من النشاط السياسي.
ولاء اليعقوبي لوزير التربية و « خيانة القطاع «
قليلون من غير رجال التعليم يعرفون حجم العزوف الذي يعرفه العمل النقابي في أكثر النقابات تمثيلية وهي نقابة التعليم الثانوي .يظن البعض أن كثرة المطالب والتحركات تدل على حيوية نقابية في حين أنها في أكثر الأحيان تحركات ظرفية سريعا ما تخمد بمجرد الوصول إلى اتفاق يرضي الجميع ولو نسبيا ولكن فلنتصور ما يمكن أن يؤول إليه الأمر إذا كان أي اتفاق حاصل بين الطرفين النقابي والحكومي محل تشكيك ومزايدات وغمز بان البعض ممن يقفون وراءه موعودون بهذه المنفعة أو تلك . فعندما تتهم القيادة بالتواطؤ والخيانة حقا أو باطلا فلا أحد يقدر حجم الضرر الذي قد يصيب العمل النقابي وجدواه … فعلا، أي جدوى في نظر الكثيرين من نضال امتد على مدى سنة كاملة لينتهي إلى اتفاق هو أشبه بالهدية يقدمها النقابي « الخائن » و » المتواطئ » للسلطة ؟ ..
واذا كنا لا نصدق كثيرا مسالة الدعوة إلى الانسلاخ من المنظمة التي أعقبت الاتفاق ( لأسباب يطول شرحها ) وهي دعوة تطفو على السطح على إثر كل أزمة بين النقابات القطاعية والبيرقراطية النقابية أو على اثر أي اتفاق بين الطرفين النقابي والحكومي لا يرضي جانبا من القواعد فانه من الأكيد أن الاعتبارات السياسية المرتبطة باتهام اليعقوبي بخيانة القطاع خدمة للوزير ولانقلاب 25 جويلية 2021 قد تحكمت بقوة أولا في النقاشات الصاخبة التي عرفها المؤتمر حول العلاقة بالسلطة وثانيا في نتائجه.
فوز الشق اليساري القريب من المركزية و المعارض للوزير وللسلطة
تشير كثير من المعطيات التي تمخضت عن المؤتمر أن القائمة الفائزة وهي قائمة «رد الاعتبار » هي مزيج من المناضلين النقابيين القريبين من حزب العمال ومن الوطد ( جناح زياد لخضر ) و يتحدث البعض عن تحالف خفي مع عناصر إسلامية وهو ما جعل البعض الاخر يشيرالى مهادنة بعض المترشحين أطرافا غير السلطة ( ربما في إشارة إلى الإسلاميين ).
وعرف المؤتمر إسقاط اغلب القائمة القريبة من القوميين من حركة الشعب ومن لسعد اليعقوبي وبالتالي من الوزير الذي أشيع داخل المؤتمر بأنه حاضر بقوة لمناصرة الجماعة القريبة منه ومن لسعد اليعقوبي . ومن تفاصيل المؤتمر أيضا انسحاب المناضلين النقابيين القريبين من الوطد (جناح منجي الرجوي) لإخفاقهم في الحصول على قائمة توافقية يشاع أن حركة الشعب كانت وراء فشلها ربما لعدم حصولها ضمن الاتفاق المطلوب على العدد الكافي من المقاعد كما يحدث دائما في عمليات المحاصصة اذا فشلت المفاوضات في إرضاء الاطراف المتفاوضة.
ومن المرجح آن القائمة الفائزة لها وجهان متضاربان.
أولا قربها من المركزية النقابية وهذا يعني انه ستنتهي نسيبا تلك المقاومة التي قادتها نقابة الثانوي ممثلة في لسعد اليعقوبي ومعه فخري الصميطي الكاتب العام المساعد ضمن المكتب المتخلي مدعومين بمحمد علي البوغديري وزير التربية الحالي حين كان أمينا عاما مساعدا في المكتب التنفيذي الوطني للاتحاد ضد الانقلاب على الفصل 20 من القانون الأساسي للمنظمة وهو ما يعني عودة الانسجام نسبيا بين المركزية والمجموعة الصاعدة ( البعض يسميها مجموعة الطبوبي والطاهري ) غير أن قراءة سياسية للتشكيلات الحزبية الفائزة تفيد إجمالا بان الاتجاه السائد كان للتوجهات السياسية الرافضة لمسار 25 جويلية ممثلة في حزب العمال والوطد ( مجموعة زياد الاخضر ) وبعض الإسلاميين اذا صح وجود تحالف خفي مصلحي بين العناصر اليسارية والاسلامية . وهو أمر غير مستبعد إذ أن مثل هذه المؤتمرات المحكومة بكثير من الاعتبارات السياسية الانتهازية او المصلحية كما قلنا في مطلع هذه الورقة لا يستبعد فيها اي شكل من التحالف الذي قد يبدو شاذا من الناحية العقائدية في نظر البعض.
ولا شك ان القائمة اليسارية الصاعدة سوف تختار من بينها الكاتب العام الجديد للجامعة بعد توزيع المهام ضمن المكتب التنفيذي القطاعي وهي عملية في غاية السهولة لحصول القائمة الفائزة على الأغلبية الساحقة لأعضاء المكتب.
وبالنظر الى كل المعطيات سالفة الذكر فمن المحتمل أن تكون القيادة الجديدة علامة على بداية صراع جديد مع وزارة التربية. مع العلم أن كثيرا من المؤتمرين طالبوا بتضمين رفض الاتفاق الأخير بين نقابة اليعقوبي ووزارة الاشراف في لائحة المؤتمر وفرض سحبه على المكتب الصاعد كما طالبت أصوات أخرى بضرورة محاسبة المكتب المتخلي لـ «خذلانه القاعدة الأستاذية ».
ولا ندري الى حد كتابة هذه الأسطر إذا كان رفض الاتفاق أدرج أو لا ضمن اللائحة العامة للمؤتمر أو ضمن اللائحة المهنية باعتباره يتضمن توصيات للمكتب الجديد . وان كنا نستبعد ذلك لاعتقادنا أن المطلب غير جدي حتى لو أدرج ضمن لائحة من لوائح المؤتمر . فمن الصعوبة بمكان في الظرف الحالي أن تدخل جامعة التعليم الثانوي في صراع من هذا النوع في جو التخلي الذي تعرفه البلاد وفي حالة الضعف التي أصابت الاتحاد والتي تكاد تخرجه من الساحة السياسية تماما . خاصة وان المعركة القادمة التي قد تفرض على المنظمة فرضا ستغطي نسبيا على اية معركة اخرى تقودها جامعة الثانوي مع وزارة الإشراف في ظل الحديث عن امكانية تراجع الحكومة ولو جزئيا عن اتفاق الزيادة في أجور القطاع العام االممضى في 14 سبتمبر 2022 والمتعلق بالزيادة في الأجور في القطاع العام.
فقد تضمنت مراسلة صادرة عن الاتحاد يوم 13 فيفري 2023 ، وفق ما نقله موقع « الشعب نيوز » رفضه ل « المذكرة الصادرة عن رئاسة الحكومة المتعلقة بتوضيح كيفية تطبيق محضر الزيادة في الأجور والتي اعتبرها الاتحاد تراجعًا واضحًا عن الاتفاق المذكور وضرباً لمصداقية التفاوض «دون أي تفاصيل أخرى».
واعتبر اتحاد الشغل أن « ما ورد في مذكرة رئاسة الحكومة لا يلزم الاتحاد في شيء وهو ما سينتج عنه توتر اجتماعي وتداعيات خطيرة »، وفق توصيفه، محملًا « الحكومة كامل المسؤولية في هذا التراجع غير المبرّر »، وفق تقديره .
هل انتهى عهد تمرد جامعة الثانوي على المركزية بمناسبة أزمة انقلاب المنظمة على قانونها ليبدأ صراع جديد مع وزارة التربية ومع السلطة ولكن صراع « بارد » تتحكم فيه المركزية الشاحبة التي توفقت في تصعيد عناصر قريبة منها وفق أجندتها وتقلبات علاقتها بسلطة 25 جويلية بين دعمها من جهة والخوف مما تعده للاتحاد من تهميش ومحاصرة مثله مثل كل الأجسام الوسيطة التي تكاد سلطة الانقلاب السياسي تمحوها من الوجود ؟.