الواقعية غير الاستسلام

عندما قررت مجموعة صغيرة من مناضلي الحركة الوطنية إطلاق الكفاح المسلح لتحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي اعتبرهم قادة الحركة الوطنية مجانين، والأكثر تعاطفا معهم وعدهم بأن يحفظ سرهم بعد أن أخبرهم بأن العمل معهم مستحيل.

لم يكن قرار مواجهة فرنسا عسكريا واقعيا في السياق الذي جاء فيه، لكن الثورات التي غيرت مجرى التاريخ كانت فيها دائما ذلك الجانب غير العقلاني أو المجنون والحالم، وسيتكفل التاريخ لاحقا بتفسير ما جرى ولماذا نجح.

ما يجري في فلسطين تنطبق عليه هذه القراءة تماما، والعمل المسلح الذي تقوم به المقاومة هو الأداة الوحيدة لمنع إبادة الشعب الفلسطيني التي تعني محو هويته بكل الوسائل العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وحتى إن كانت موازين القوى العسكرية مختلة بشكل كبير لصالح إسرائيل فإن المواجهة المستمرة معها تجعل عملية الإبادة بمفهومها الشامل المذكور سابقا أمرا مستحيلا، وفوق ذلك فإن هذه المواجهة تفتح الباب أمام تداعيات سياسية على الداخل الإسرائيلي وعلى المستويات الإقليمية والدولية غير محسوبة وهو ما حدث في قضايا أخرى مشابهة كما هو حال الجزائر.

يبدو الساخرون من المقاومة والمتضامنين معها معتنقين لنظرية نهاية التاريخ بالمفهوم الذي طرحه فوكوياما رغم أن تلك النظرية تم تجاوزها فعليا بعد سنوات قليلة من طرحها.

إذا كان الأمريكيون يبحثون بجدية منذ أكثر من ثلاثة عقود ونصف نهاية الهيمنة الأمريكية ويقدمون يوميا الأدلة على اقترابها، وإذا كان العالم كله يتحدث عن نهاية النظام الدولي بشكله وتوازناته التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية، وصارت القيم الغربية التي يقوم عليها في وضع النقض، فمن أين يأتي هذا اليقين بأن إسرائيل لا تهزم، وأن الحل الوحيد المتاح أمام الفلسطينيين هو الخضوع والاستسلام لها؟

لقد أسقطت المقاومة عمليا عدة "مسلمات" بخصوص الصراع مع إسرائيل، وهذا ما يقوله الإسرائيليون، لكن هناك من يصر على رفض رؤية الحقيقة بسبب اصطفافات إيديولوجية أو قصور في المعرفة.

يجب التذكير بأن قطاع غزة، وهو من اكثر مناطق العالم كثافة سكانية، يعيش تحت الحصار منذ أكثر من 15 سنة، وأن الفلسطينيين يعيشون تحت نظام ميز عنصري كما تصنفه منظمات حقوق الإنسان، وأن كل التنازلات التي تم تقديمها منذ توقيع اتفاق إعلان المبادئ قبل ثلاثين سنة لم تفض إلا إلى نتيجة وحيدة هي جعل حل الدولتين مستحيلا.

تتطلب الواقعية رؤية الصورة الكبيرة بكل تفاصيلها، وشرط بناء موقف عقلاني هو الاطلاع على الحقيقة كما هي قائمة على الأرض.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات