لا أحد يملك توقعات، وكل ما يخطر في البال "حقيقي"، حيث الواقع مفتوح على كل الاحتمالات... ولكن الثابت أن الانفجار الفلسطيني كان متوقعاً. حدث مراراً خلال ال75 سنة التي انقضت منذ "النكبة"، بوتائر ربما كانت أقل قوة، ولكنه لم يختف في أي وقت. وكان واهماً وجاهلاً من افترض أن الفلسطينيين سيقبلون في نهاية المطاف بسرقة أراضيهم وباحتلالها ومصادرتها وباذلالهم كل يوم، وبقتل من لا يرتضي الذل، وأنه يمكن اسكاتهم بالقمع والتيئيس وببعض الفتات.
لا يمكن لأي كلام أن يكون أبلغ مما جرى واقعياً على أرض فلسطين. ومع ذلك نكتب، محاولين ألاّ ننزاح عن ذاك الذي جرى على أرض فلسطين، وما زال جارياً، وهو لا يحتاج منّا الى إشادة، ولعله لا يحتاج حتى الى التذكير بدلالته، من أنه أعاد الى العقول والمشاعر والأسماع والأبصار تأكيد الأسس التي غالباً ما تُدفن تحت ركام الخيبات والانكسارات والذل اليومي للحياة كما يفرضها علينا – جميعاً وأينما كان في منطقتنا – متسلطون بغاة وفاسدون.
وبما أن ما جرى على أرض فلسطين، وما زال جارياً، قد قلب رأساً على عقب المعادلات التي كانت مستقرة، حتى حينما كانت تطرأ عليها أحداث استثنائية صاخبة، وبما أن لا أحداً يعرف يقينياً كيف ستتطور، وهو جهل يلف ليس فحسب الباحثين واخوانهم ثقلاء الظل من "الخبراء"، بل حتى من يقال لهم "صنّاع القرار" من كل الجهات، الذين قد يطلقون تصريحات، ويتخذون اجراءات، ويرتكبون افعالاً يظنون أن لها نتائج ما، بينما هي قد تفلت تماماً من أيديهم... لذلك فلنستعِدْ بعض ما هو واضح الآن، ونرتضي للغد بما يشبه "القدر".
- فلسطين هي المسألة المركزية في منطقتنا بل وإحدى أهم مسائل العالم. مرة بعد أخرى يعود ذلك الى الواجهة، على الرغم ممن تنبأوا بأنها خبتْ أو حتى اندثرتْ. وهذا القول ليس لإثارة الحماسة أو التعاطف، بل لأن نسيانه ينتمي لدى البعض – وهم يبقون قلة قليلة ببينما الجو العارم لا يشبههم ابداً - الى عالم الحذر من الاحباط المتوقَع والرغبة في حماية الذات منه، وهذا يُغلَّف بما يعتبرونه اعتداداً ب"الواقعية". وهو يصدر من جهة ثانية عن "الأعداء" الذين يتمنّون انتصار اسرائيل، ويتماهون معها ومع ما ومن تمثِّل، وهي التي اعتبرت أكثر من مرة عبر التاريخ أن الأمر قد استقر لها من غير رجعة فيه.
- الانفجار الفلسطيني كان متوقعاً. حدث مراراً خلال ال75 سنة التي انقضت منذ "النكبة"، بوتائر ربما كانت أقل قوة، ولكنه لم يختف في أي وقت. وكان واهماً وجاهلاً من افترض أن الفلسطينيين سيقبلون في نهاية المطاف بسرقة أراضيهم وباحتلالها ومصادرتها وبإذلالهم كل يوم، وبقتل من لا يرتضي الذل. وأنه يمكن إسكاتهم بالقمع والتيئيس وببعض الفتات. الانفجار الفلسطيني استفاد هذه المرة من عوامل كبرى مساعِدة. ولكن لا إيران وتكنولوجيتها المتقدمة ولا تدريباتها وخططها هي "السر".
قد تكون هذه الأدوات مساعدة لما حدث بشكل مبهر. وهي مساعدة لو كانت حصلت بالفعل، والله أعلم، مشروعة تماماً فلا يعقل أن تستفيد إسرائيل من الدعم الدولي بالمال والسلاح والتكنولوجيا والحماية السياسية والدبلوماسية التي أغدقها وما زال يغدقها عليها أباطرة العالم كله – وآخرها تحريك المدمرة الامريكية "جيرالد فورد" الى قرب شواطئها لطمئنتها (!) وهي الأحدث من بين مدمرات أمريكا – وألاّ يكون مشروعاً حصول فلسطين على أي مساعدة أو دعم من أي جهة جاء. غير أنه لا يمكن لإيران أو سواها، مهما فعلت أن تقنع آلاف الشباب من المقاتلين الذين اخترقوا الجدار الفاصل، بالتضحية بحيواتهم – وهم يعرفون ومُقْبِلون - لولا أنهم كانوا ينتظرون هذه اللحظة. ولم يكن يغيب عن أذهانهم وأذهان أهلهم في غزة الثمن المهول الذي سيتعين عليهم دفعه، وهم الخبراء في توحش اسرائيل عليهم لاسباب اٌقل بكثير مما وقع الآن. يستعينون بالله وبالوعد بالجنة؟ هذه أيضاً "ضرورة" مشروعة تماماً بوجه طغيان لا حدود له، وظلم لا يُحتمل. وإلا فبمن؟ ولا بأس إنْ ازعج ذلك بعض العقول "النيّرة"، الثرثارة فحسب، وهي بلا طائل.
- كل الحروب مجبولة على الجرائم. الحرب نفسها لا يمكن أن تكون إلا جريمة كبرى. وللتذكير فقط وليس لاتباع مبدأ "السن بالسن"، نستحضر مثالاً ليس فلسطينياً: ملجأ العامرية في بغداد في الحرب الامريكية والبريطانية الأولى على العراق 1991، لأن استعراض الامثلة الفلسطينية على المجازر المرتكبة بحقهم يحتاج الى مجلدات! وهكذا قُتل اسرائيليون في الاقتحام الفلسطيني للمستوطنات الاسرائيلية قبالة غزة يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وصُفّي آخرون عمداً، وأُسر كثيرون، بينهم نساء وأطفال وكبار في السن. وما بين الرغبة في الصدمة والإيلام والحسابات العملياتية (كمبادلة الاسرى)، تقع الكثير من الارتكابات التي يندى لها الجبين، كما في كل الحروب. وإنما أن يُطلَب من المضطهَد والمقموع والمُذلّ منذ الأجداد أن يثبت أنه هو الحضاري والانساني والمنضبط في كل الظروف، فهو تواطؤ وقح مع المتجبِّرين.
- الكذب وفبركة الشائعات من قبل سلطات العالم "المتقدِّم" وأجهزة الدعاية – وهي لم تعد إعلاماً بل صارت خاضعة تماماً لقرارات السلطة - وظيفة أولى هي التغطية على الجرائم المرتَكبة. قلب الحقائق وإغفال ما لا يروق لها، ورواية قصص من نسج خيالات مريضة وترويجها وإغفال وقائع رهيبة وتجاهلها حين لا تكون ملائمة للرواية الموضوعة صار "علماً" يدرّس في الجامعات المختصة. وسيساعد "الذكاء الاصطناعي" على تزوير الواقع واستبداله ب"واقع" آخر افتراضي. لم يوفق هذه المرة الاعلام الغربي بإكمال رواية الأطفال الاسرائيليين الأربعين الذين زعم أنهم ذُبحوا في إحدى المستوطنات وفُصلت رؤوسهم عن أجسادهم، فاعتدوا لغياب الصورة بأنها مرعبة وهم "أخلاقياً" لن ينشروها. وإنما وضعوا الخبر، بلا ادلة ولا قرائن على صدر صفحاتهم، مع أن المتحدث باسم جيش الاحتلال نفسه نفى امتلاك دليل عنها! وأما آلاف الاطفال الذين سُحقت رؤوسهم وأجسادهم في غزة فلا يهمونهم، ولا يذكرونهم حتى بكلمة فهم أبناء واخوة تلك "الحيوانات البشرية" كما وصفهم وزير حرب اسرائيل، في استعادة مبتذلة لما كان آباؤها المؤسسين يقولونه تبريراً لقتلهم بالجملة من أن "أطفال فلسطين هم إرهابيو الغد" ، و"أن الفلسطيني الطيب هو الفلسطيني الميت" وهلم جرا.
- لماذا؟ لأن السادة هؤلاء هم ورثة الكولونياليين الذين غزوا أمريكا وارتكبوا فيها مذابح بحق سكانها الأصليين أبادت الملايين – حرفياً - ودمرت حضارات عريقة (الإنكا والأزتيك مثلاً، إذ لم يكن السكان الاصليون "هنوداً حمراً" متوحشين وبدائيين كما تصورهم هوليوود والروايات...)، ونظّموا مع آبائهم الاوروبيين تجارة اختطاف سكان إفريقيا وتحويلهم الى عبيد، وبقوا يطبِّقون عليهم منظومة كاملة من الفصل العنصري حتى أمس، وصولاً الى العصر الحديث، وقنبلتي هيروشيما ونغازاكي التجريبيتين، بعد انتهاء الحرب الثانية وانتصارهم على الجهة المقابلة، والى فييتنام والى العراق... ولعلي نسيتُ أمثلة واختصرتُ اللائحة.
- وأما أوروبا فتستعيد أمجادها، أو فلنقل أنها تتخلص بسرعة مذهلة من تلك العباءة التي ارتدتها بهذا المقدار أو ذاك من الإحكام، وأسمتها "مبادئ حقوق الانسان". ولن أطيل، فالجميع يعرف مقدار العنصرية المنفلتة من كل عقال والسائدة فيها حيال كل ما هو مختلِف، والجميع يعرف جرائم السلطات الكولونيالية الأوروبية في إفريقيا وما ارتكبه الفرنسيون في الجزائر من أهوال على كل الصعد ويرفضون حتى اليوم احاطته بكلمة اعتذار، مُعتدّين أنه "ينتمي الى التاريخ". كما أنها ليست بلادنا ولا مجتمعاتنا من أنتجت النازية والفاشية، نظرياتٍ ومحارقَ لليهود.
- منظِّرو اسرائيل والصهيونية وقادتها السياسيون مُطّلعون على التاريخ ودروسه، ويعلمون أنهم هم أنفسهم نتاج استحالة التصفية التي سعتْ اليها النازية. فهل سحْق غزة عن بكرة ابيها هي لترهيب المستقبل، ولشفاء غليلهم الحالي بعد العار الذي لحق بغطرستهم، والذي لا يُمحى وسيهز مجتمعهم الذي يبدو اليوم متماسكاً في ظل الحرب، ولكنه سيتفتت حين تهدأ، وسيعجّل بوتائر كبيرة هرب الآلاف من هذا المكان المتفجر والذي سيبقى غير آمن، إلا اذا كانوا يتّكلون على حماية البحرين والإمارات لهم! لقد انكشف هزال جيوشهم وتكنولوجياتهم المتقدمة التي يبيعونها للعالم بأثمان مرتفعة باعتبارها الأحدث والتي لا تعرف الخيبة… فخابت على يد أبناء غزة من المقاتلين البواسل. وأعاد ذلك الى الأذهان تلك المعادلة التي سبق لنا رؤيتها في العدوانات الاسرائيلية على لبنان: كثافة نيران متوحِّشة عن بعد، وجبنٌ وارتباك في أي مواجهة ولو كانت مع شبان بالكاد مدرّبين ومسلحين.
- لكم الله يا أهل غزة!
- وأخيراً، فلا بد من العودة الى نقطة البدء: لا أحد يملك توقعات، وكل ما يخطر في البال "حقيقي"، حيث الواقع مفتوح على كل الاحتمالات…